اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (8)

قوله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين } الآية .

هذه الآية رخصة من الله - تعالى - في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم{[56232]} .

قال ابن زيد : كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ{[56233]} .

قال قتادة : نسختها : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }{[56234]}[ التوبة : 5 ] .

وقيل : كان هذا الحكم لعلة ، وهي الصلح فلما زال الصُّلح بفتح «مكة » نسخ الحكم ، وبقي الرسم يتلى .

وقيل : هي مخصوصة في خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه . قاله الحسن .

قال الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف{[56235]} ، وهو قول أبي صالح .

وقال مجاهد : هي مخصوصة في الذين آمنوا ، ولم يهاجروا{[56236]} .

وقيل : يعني به النساء والصبيان ؛ لأنهم ممن لا يقاتل ، فأذن الله في برهم .

وقال أكثر أهل التأويل : هي محكمة ، واحتجُّوا بأن أسماء بن أبي بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم : هَلْ تَصِلُ أمَّهَا حين قدِمتْ عليْهَا مُشْرِكةً ؟ قال : " نَعَمْ " {[56237]} خرجه البخاري ومسلم . وقيل : إن الآية نزلت فيها .

وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه : أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - طلق امرأته قتيلة في الجاهلية ، وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله فذكرت ذلك له ، فأنزل الله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين }{[56238]} ذكر هذا الخبر الماوردي{[56239]} وغيره ، وخرجه أبو داود الطَّيالسي في مسنده .

قوله : { أَن تَبَرُّوهُمْ } وقوله : { أَن تَوَلَّوْهُمْ } بدلان من الذين قبلهما بدل اشتمال ، فيكون في موضع جرّ .

والمعنى : لا ينهاكم الله عن أن تبروا هؤلاء الذين لم يقاتلوكم ، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء وهم خزاعة ، صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألاَّ يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً ، فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم . حكاه الفرَّاء{[56240]} .

وقوله : { وتقسطوا إِلَيْهِمْ } . أي : تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة ، وليس يريد به من العدل ، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل ، قاله ابن العربي{[56241]} .

فصل في نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر .

نقل القرطبي عن القاضي أبي بكر في كتاب «الأحكام » له : أن بعض العلماء استدلّ بهذه الآية على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر ، قال : وهذه وهلة عظيمة ، إذ الإذن في الشيء ، أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوب ، وإنما يعطي الإباحة خاصة ؛ وقد بيَّنَّا أنَّ القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه ، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك ، فتلا هذه الآية عليهم " {[56242]} .


[56232]:ينظر: القرطبي 18/40.
[56233]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/63) عن ابن زيد.
[56234]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/63) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/306) وعزاه إلى أبي داود في تاريخه وابن المنذر عن قتادة.
[56235]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/40).
[56236]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/62) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/306) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[56237]:تقدم تخريجه.
[56238]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/62) والحاكم (2/480-486) وأحمد والبزار كما في "مجمع الزوائد" (7/126) والطيالسي وأبو يعلى كما في "المطالب العالية" (3/387) رقم (3778). وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الهيثمي (7/126): وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله رجال الصحيح وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/305) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في "تاريخه" والطبراني وابن مردويه.
[56239]:ينظر: النكت والعيون 5/519-520.
[56240]:ينظر: معاني القرآن له 3/150، والقرطبي 18/40.
[56241]:ينظر: أحكام القرآن له 4/1783.
[56242]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/40، وأحكام القرآن للقاضي ابن العربي 4/1784.