فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (8)

ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكافرين وترك موادتهم فصل القول فيمن يجوز بره منهم ، ومن لا يجوز فقال :{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ( 8 ) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ( 9 ) يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وأتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا أتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر وسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ( 10 ) } .

{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم } أي لا ينهاكم عن هؤلاء ، { أن تبروهم } وتكرموهم وتحسنوا إليهم قولا وفعلا ، وهذا بدل من الموصل بدل اشتمال .

" عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وأقط وسمن وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها ، حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته ، فأنزل الله هذه الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها ، " أخرجه ( {[1577]} ) أحمد والبراز وأبو يعلى وغيرهم وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي البخاري ومسلم وغيرهما " عن أسماء بنت أبي بكر قالت : أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أأصلها ؟ فأنزل الله : { لا ينهاكم } الآية فقال : نعم صلي أمك " .

{ وتقسطوا إليهم } أي تفضوا إليهم بالقسط وتعدلوا فيهم بالإحسان إليهم والبر ، يقال : أقسطت إلى الرجل إذا عاملته بالعدل ، قال الزجاج : المعنى وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد ولا تظلموهم ، وإذا نهى من الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم ؟ .

{ إن الله يحب المقسطين } أي العادلين ، ومعنى الآية أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال ، وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم ، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل ، قال ابن زيد كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ، ثم نسخ ، قال قتادة : نسخ بقوله :{ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ، وقيل : هذا الحكم كان ثابتا في الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم ، وقيل : هي خاصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ من بينه وبينه عهد ، قاله الحسن وقال الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف ، وقال مجاهد : هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا ، وقيل : هي خاصة بالنساء والصبيان ، وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة ، وهو الأولى لحديث أسماء المتقدم المتفق عليه .


[1577]:رواه أحمد.