قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } قيل : نزلت الآية في رجلين اغتابا رفيقهما ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ، ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب ، فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام فلم يهيئ لهما شيئا ، فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئاً ؟ قال : لا ، غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً ، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق إلى أسامة بن زيد ، وقل له : إن كان عنده فضل من طعام وإدام فليعطك ، وكان أسامة خازن محمد صلى الله عليه وسلم على رحله ، فأتاه فقال : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إليهما وأخبرهما ، فقالا : كان عند أسامة طعام ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئاً ، فلما رجع قالا : لو بعثناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثم انطلقا يتجسسان ، هل عند أسامة ما أمر لهما به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فلما جاءا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، قالا : والله يا محمد ما تناولنا يومنا هذا لحماً ، قال : بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } وأراد : أن يظن بأهل الخير شرا { إن بعض الظن إثم } قال سفيان الثوري : الظن ظنان : أحدهما إثم ، وهو أن تظن وتتكلم به ، والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم . { ولا تجسسوا } التجسس : هو البحث عن عيوب الناس ، نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من عيوب الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تناجشوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً " . أنبأنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن الحسن الطوسي بها ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفرايني ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أنبأنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيي بن أكثم ، أنبأنا الفضل بن موسى الشيباني ، عن الحسين بن واقد ، عن أبي أوفى بن دلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورات المسلمين ، يتتبع الله عورته ، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " . قال ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك . وقال زيد بن وهب : قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ، فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به { ولا يغتب بعضكم بعضاً } يقول : لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوء مما هو فيه .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول : فقد بهته " .
أنبأنا أبو الطاهر الحارثي ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده " أنهم ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقالوا : لا يأكل حتى يطعم ، ولا يرحل حتى يرحل ، فقال النبي : قد اغتبتموه . فقالوا : إنما حدثنا بما فيه ، قال : حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه " . قوله عز وجل : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه } قال مجاهد : لما قيل لهم : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا : لا ، قيل : فكرهتموه أي فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً . قال الزجاج : تأويله : إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحم أخيك ، وهو ميت لا يحس بذلك .
أجبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا الفريابي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، حدثني صفوان بن عمرو ، حدثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " . قال ميمون بن سيار : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول : كل ، قلت : يا عبد الله ولم آكل ؟ قال : بما اغتبت عبد فلان ، فقلت : والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شراً ، قال : ولكنك استمعت ورضيت به ، فكان ميمون لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً يغتاب عنده أحدا . { واتقوا الله إن الله تواب رحيم* }
{ 12 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }
نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء{[804]} بالمؤمنين ، ف { إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } وذلك ، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة ، وكظن السوء ، الذي يقترن به كثير من الأقوال ، والأفعال المحرمة ، فإن بقاء ظن السوء بالقلب ، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك ، بل لا يزال به ، حتى يقول ما لا ينبغي ، ويفعل ما لا ينبغي ، وفي ذلك أيضًا ، إساءة الظن بالمسلم ، وبغضه ، وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه .
{ وَلَا تَجَسَّسُوا } أي : لا تفتشوا عن عورات المسلمين ، ولا تتبعوها ، واتركوا{[805]} المسلم على حاله ، واستعملوا التغافل عن أحواله{[806]} التي إذا فتشت ، ظهر منها ما لا ينبغي .
{ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } والغيبة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه }
ثم ذكر مثلاً منفرًا عن الغيبة ، فقال : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } شبه أكل لحمه ميتًا ، المكروه للنفوس [ غاية الكراهة ] ، باغتيابه ، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه ، وخصوصًا إذا كان ميتًا ، فاقد الروح ، فكذلك ، [ فلتكرهوا ] غيبته ، وأكل لحمه حيًا .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } والتواب ، الذي يأذن بتوبة عبده ، فيوفقه لها ، ثم يتوب عليه ، بقبول توبته ، رحيم بعباده ، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم ، وقبل منهم التوبة ، وفي هذه الآية ، دليل على التحذير الشديد من الغيبة ، وأن الغيبة من الكبائر ، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت ، وذلك من الكبائر .
ثم وجه - سبحانه - إلى عباده المؤمنين نداء خامسا ، نهاهم فيه عن أن يظن بعضهم ببعض ظنا سيئا بدون مبرر ، كما نهاهم عن التجسس وعن الغيبة ، حتى تبقى للمسلم حرمته وكرامته . . فقال - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا . . } .
وقوله - تعالى - { اجتنبوا } من الاجتناب يقال : اجتنب فلان فلانا إذا ابتعد عنه ، حتى لكأنه فى جانب والآخر فى جانب مقابل .
والمراد بالظن المنهى عنه هنا : الظن السيئ بأهل الخير والصلاح بدون دليل أو برهان .
قال بعض العلماء ما ملخصه : والظن أنواع : منه ما هو واجب ، ومنه ما هو محرم ، ومنه ما هو مباح .
فالمحرم : كسوء الظن بالمسلم المستور الحال ، الظاهر العدالة ، ففى الحديث الشريف : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث . . " وفى حديث آخر : " إن الله حرم من المسلم ودمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء " .
وقلنا : كسوء الظن بالناس ، إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير ، وأما إن تظن شرا لتتقيه ، ولا يتعدى أثر ذلك إلى الغير فذلك محمود غير مذموم ، وهو محل ما ورد من أن " من الحزم سوء الظن " .
أى : يا من آمنتم بالله - تعالى - إيمانا حقا ، ابتعدوا ابتعادا تاما عن الظنون السيئة بأهل الخير من المؤمنين ، لأن هذه الظنون السيئة التى لا تستند إلى دليل أو أمارة صحيحة إنما هى مجرد تم ، تؤدى إلى تولد الشكوك والمفاسد . . فيما بينكم .
وجاء - سبحانه - بلفظ " كثيرا " منكرا لكى يحتاط المسلم فى ظنونه ، فيبتعد عما هو محرم منها ، ولا يقدم إلا على ما هو واجب أو مباح منها - كما سبق أن أشرنا - .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } .
أى : إن الكثير من الظنون يؤدى بكم إلى الوقوع فى الذنوب والآثام فابتعدوا عنه .
قال ابن كثير : ينهى الله عباده المؤمنين عن كثير من الظن ، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس من غير محله ، لأن بعض ذلك يكون إثما محضا ، فليجتنب كثيرا منه احتياطا . . " عن حارثة بن النعمان : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ثلاث لازمات لأمتى : " الطيرة والحسد وسوء الظن " : فقال رجل : ما الذى يذهبن يا رسول الله من هن فيه ؟ قال : " إذا حدست فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فامض " " .
وأخرج البيهقى فى شعب الإِيمان عن سعيد بن المسيب قال : كتب إلى بعض إخوانى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ضع أمر أخيك على أحسنه ، ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن يكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها فى الخير محملا ، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه . .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أى : خذوا ما ظهر من أحوال الناس ولا بتحثوا عن بواطنهم أو أسرارهم .
أو عوراتهم ومعايبهم ، فإن من تتبع عورات الناس فضحه الله - تعالى - .
فالتجسس مأخوذ من الجس ، وهو البحث عما خفى من أمور الناس ، وقرأ الحس وأبو رجاء : { ولا تحسسوا } من الحس ، وهما بمعنى واحد . وقيل هما متغايران التجسس - بالجيم - معرفة الظاهر ، وأن التحسس - بالحاء - تتبع البواطن وقيل بالعكس . .
وعلى أية حال فالمراد هنا من التجسس والتحسس : النهى عن تتبع عورات المسلمين ، أخرج أبو داود وغيره " عن أبى برزة الأسلمى قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإِيمان قلبه . لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين ، فضحه الله - تعالى - فى قعر بيته " .
وعن معاوية بن أبى سفيان قال : سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " .
ثم نهى - سبحانه - بعد ذلك عن الغيبة فقال : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } والغيبة - بكسر الغين - أن تذكر غيرك فى غيابه بما يسوءه يقال : اغتاب فلان فلانا ، إذا ذكره بسوء فى غيبته ، سواء أكان هذا الذكر بريح اللفظ أم بالكناية ، أم بالإِشارة ، أم بغير ذلك .
روى أبو داود وغيره عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يركه . قيل : أرأيت إن كان فى أخى ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه " .
ثم ساق - سبحانه - تشبيها ينفر من الغيبة أكمل تنفير فقال : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } . والاستفهام للتقرير لأنه من الأمور المسلمة أن كل إنسان يكره أكل لحم أخيه حيا ، فضلا عن أكله ميتا .
والضمير فى قوله : { فَكَرِهْتُمُوهُ } يعود على الأكل المفهوم من قوله { يَأْكُلَ } و { مَيْتاً } حال من اللحم أو من الأخ .
أى : اجتنبوا أن تذكروا غيركم بسوء فى غيبته ، فإن مثل من يغتاب أخاه المسلم كمثل من يأكل لحمه وهو ميت ، ولا شك أن كل عاقل يكره ذكل وينفر منه أشد النفور .
ورحم الله - صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة : قوله - تعالى - : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ . . } تمثيل وتصوير لما يناله المتغاب من عرض غيره على أفظع وجه وأفحشه .
وفيه مبالغات شتى : منها الاستفهام الذى معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو الغاية فى الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم ، والإِشعار بأن أحدا من الأحديث لا يحب ذلك ، ومنها : أنه -سبحانه - لم يقتصر على تمثل الاغتياب بأكل لحم الإِنسان ، وإنما جعله أخا ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ وإنما جعله ميتا .
وانتصب " ميتا " على الحال من اللحم أو من الأخ . . وقوله : { فَكَرِهْتُمُوهُ } فيه معنى الشرط . أى : إن صح هذا فقد كرهتموه - فلا تفعلوه - وهى الفاء الفصيحة .
والحق أن المتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد نفرت من الغيبة بأبلغ أسلوب وأحكمه ، لأنها من الكبائر والقبائح التى إلى تنزق شمل المسلمين ، وإيقاد نار الكراهية فى الصدور .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقد أخرج العلماء أشياء لا يكون لها حكم الغيبة ، وتنحصر فى ستة أسباب :
الأول : التظلم ، إذ من حق المظلوم أن يشكو ظالمه إلى من تتوسم فيه إزالة هذا الظلم .
الثان : الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته .
الثالث : الاستفتاء ، إذ يجوز للمستفتى أن يقول للمفتى : ظلمنى فلان بكذا .
الرابع : تحذير المسلمين من الشر ، كتجريح الشهود والرواة والمتصدين للإِفتاء بغير علم .
الخامس : المجاهرون بالعاصى وبارتكاب المنكرات ، فإنه يجوز ذكرهم بما تجاروا به . .
السادس : التعريف باللقب الذى لا يقصد به الإِساءة كالأعمش والأعرج .
ثم ختم - سبحانه - الاية الكريمة بدعوة المؤمنين إلى التوبة والإِنابة فقال : { واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } . أى : واتقوا - أيها المؤمنون - بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما أمركم - سبحانه - باجتنابه ، إن الله - تعالى - كثير القبول لتوبة عابده ، الذين يتوبون من قريب ، ويرجعون إلى طاعته رجوعا مصحواب بالندم على ما فرط منهم من ذنوب ، ومقرونا بالعزم على عدم العودة إلى تلك الذنوب لا فى الحال ولا فى الاستقبال . ومستوفيا لكل ما تستلزمه التوبة الصادقة من شروط .
وهو - أيضا - واسع الرحمة لعباده المؤمنين ، المستقيمين على أمره .
وبذلك نرى هذه الآية الكريمة قد نهت المسلمين عن رذائل ، يؤدى تركها إلى سعادتهم ونجاحهم ، وفتحت لهم باب التوبة لكى يقلع عنها من وقع فيها . .
ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن . وأن لا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه ، لما في ذلك وفي التجسس من التقاطع والتدابر . وحكم على بعضه بأنه { إثم } إذ بعضه ليس بإثم . ولا يلزم اجتنابه وهو ظن الخير بالناس وحسنه بالله تعالى . والمظنون من شهادات الشهود والمظنون به من أهل الشر . فإن ذلك سقوط عدالته وغير ذلك هي من حكم الظن به . وظن الخير بالمؤمن محمود والظن المنهي عنه : هو أن تظن سوءاً برجل ظاهره الصلاح . بل الواجب تنزيل الظن وحكمه وتتأول الخير . وقال بعض الناس : { إثم } معناه : كذب . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث »{[10475]} . وقال بعض الناس . معنى : { إن بعض الظن إثم } أي إذا تكلم الظان أثم . وما لم يتكلم فهو في فسحة . لأنه لا يقدر على دفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الحزم سوء الظن »{[10476]} . وذكر النقاش عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال :( احترسوا من الناس بسوء الظن ){[10477]} .
قال القاضي أبو محمد : وما زال أولو العلم يحترسون من سوء الظن ويسدون ذرائعه .
قال سلمان الفارسي : إني لأعد عراق قِدْري{[10478]} مخافة الظن . وذكر النقاش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «احترسوا من الناس بسوء الظن . » وكان أبو العالية يختم على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه .
وقال ابن مسعود : الأمانة خير من الخاتم . والخاتم خير من ظن السوء .
وقوله : { ولا تجسسوا } أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن . واجتزوا بالظواهر الحسنة .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين والهذليون : «لا تحسسوا » بالحاء غير منقوطة . وقال بعض الناس : التجسس بالجيم في الشر . والتحسس بالحاء في الخير . وهكذا ورد القرآن ، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال . وقال أبو عمرو بن العلاء : التجسس : ما كان من وراء وراء . والتحسس بالحاء : الدخول والاستعلام . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً »{[10479]} . وذكر الثعلبي حديث حراسة عمرو بن عوف ووجودهما الشرب في بيت ربيعة بن أمية بن خلف . وذكر أيضاً حديثه في ذلك مع أبي محجن الثقفي{[10480]} . وقال زيد بن وهب . قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنا نهينا عن التحسس . فإن يظهر لنا شيء أخذنا به{[10481]} .
{ ولا يغتب } معناه : ولا يذكر أحدكم من أخيه شيئاً هو فيه يكره سماعه . وروي أن عائشة قالت عن امرأة : ما رأيت أجمل منها إلا أنها قصيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «اغتبتها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرته »{[10482]} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته . وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته »{[10483]} . وفي حديث آخر : «الغيبة أن تذكر المؤمن بما يكره » . قيل : وإن كان حقاً . قال : «إذا قلت باطلاً فذلك هو البهتان »{[10484]} . وقال معاوية بن قرة وأبو إسحاق السبيعي{[10485]} : إذا مر بك رجل اقطع . فقلت : ذلك الأقطع ، كان ذلك غيب . وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه . والذي يغتاب يتوب فلا يتاب عليه حتى يستحل »{[10486]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد يموت من اغتيب ، أو يأبى .
وروي أن رجلاً قال لابن سيرين : إني قد اغتبتك فحللني . فقال له ابن سيرين إني لا أحل ما حرم الله . والغيبة مشتقة من غاب يغيب . وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه . ولم يبح في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«أما معاوية فصعلوك لا مال له »{[10487]} . وما يقال في الفسقة أيضاً وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أعن الفاجر ترعون ؟ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه الناس إذا لم تذكروه »{[10488]} ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «بئس ابن العشيرة »{[10489]} . ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم . فمنه قول الشاعر [ سويد بن أبي كاهل اليشكري ] : [ الرمل ]
فإذا لاقيته عظّمني . . . وإذا يخلو له لحمي رتع{[10490]}
ومنه قول الآخر : [ المقنع الكندي ] .
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم . . . وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا{[10491]}
فوقفهم الله تعالى على جهة التوبيخ بقوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } فالجواب عن هذا : لا . وهم في حكم من يقولها . فخوطبوا على أنهم قالوا لا . فقيل لهم : { فكرهتموه } وبعد هذا مقدر تقديره : فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا المقدر يعطف قوله : { واتقوا الله } قاله أبو علي الفارسي . وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع . وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل . وهو أحق أن يجاب . لأنه بصير عالم . والطبع أعمى جاهل .
وقرأ الجمهور : «ميْتاً » بسكون الياء . وقرأ نافع وابن القعقاع وشيبة ومجاهد : «ميِّتاً » بكسرها والشد . وقرأ أبو حيوة : «فكُرّهتموه » بضم الكاف وشد الراء .
ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم أعلم بأنه { تواب رحيم } إبقاء منه تعالى وإمهالاً وتمكيناً من التوبة .