قوله تعالى : { والذين يبخلون } ، البخل في كلام العرب : منع السائل من فضل ما لديه ، وفي الشرع : منع الواجب .
قوله تعالى : { ويأمرون الناس بالبخل } ، قرأ حمزة والكسائي { بالبخل } بفتح الباء والخاء ، وكذلك في سورة الحديد ، وقرأ الآخرون بضم الباء وسكون الخاء ، نزلت في اليهود ، بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها .
وقال سعيد بن جبير : هذا في كتمان العلم . وقال ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد : نزلت في كردم بن زيد ، وحيي بن أخطب ، ورفاعة بن زيد ابن التابوت ، وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحر بن عمر ، وكانوا يأتون رجالاً من الأنصار ويخالطونهم فيقولون : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ، ولا تدرون ما يكون . فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } يعني المال ، وقيل : يعني يبخلون بالصدقة . { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً }
فهؤلاء ما بهم من الاختيال والفخر يمنعهم من القيام بالحقوق . ولهذا ذمهم بقوله : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } أي : يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة . { وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } بأقوالهم وأفعالهم { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي : من العلم الذي يهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون فيكتمونه عنهم ، ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحق . فجمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم ، وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم ، وهذه هي صفات الكافرين ، فلهذا قال تعالى : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } أي : كما تكبروا على عباد الله ومنعوا حقوقه وتسببوا في منع غيرهم من البخل وعدم الاهتداء ، أهانهم بالعذاب الأليم والخزي الدائم . فعياذًا بك اللهم من كل سوء .
وقوله { الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } يدل من قوله { مُخْتَالاً فَخُوراً } أى : أن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ولا يحب الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل .
ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر والتقدير : الذى يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله مبغضون من الله أو أحقاء لكل ما ينزل بهم من عذاب . وحذف لتذهب نفس السامع فيه كل مذهب . ودل على هذا الخبر المحذوف قوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } .
ويجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا على الذم . إلى غير ذلك مما ذكروه فى وجوه إعراب هذه الآية الكريمة .
والمعنى : أن الله - تعالى - لا يجب هؤلاء المختالين والفخورين ، ولا يجب كذلك الذين لا يكتفون بالبخل بأموالهم عن إنفاق شئ منها فى وجوه الخير مع أن بخلهم هذا مفسدة عظيمة . بل يأمرون غيرهم بأن يكونوا بخلاء مثلهم ، وأن يسلكوا مسلكهم الذميم .
قال صاحب الكشاف : أى يبخلوا بذات أيدهم وبما فى أيدى غيرهم . فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ممن وجد منه السخاء . وفى أمثال العرب أبخل من الضنين بنائل غيره . ثم قال : ولقد رأيناه ممن بلى بداء البخل ، من إذن طرق سمعه أن أحداً جاد على أحد ، شخص به ، أى قلق وضجر ، وحل حبوته واضطرب ودارت عيناه فى رأسه . كأنما نهب رحله ، وكسرت خزائنه ضجراً من ذلك وحسرة على وجوده .
وقوله : { وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم الكثيرة أى : أنهم يبخلون بما فى أيديهم ويأمرون غيرهم بذلك ، ويكتمون ويخفون نعم الله التى أعطاها لهم فلا يظهورها سواء أكانت هذه النعم نعما مالية أم علمية أم غير ذلك من نعم الله عليهم .
وقوله - تعالى - { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } بيان للمصير السئ الذى سيصيرون إليه بسبب أفعالهم القبيحة .
أى : وهيأنا لهؤلاء الجاحدين لنعم الله الكافرين بوحيه عذاباً يهينهم ويذلهم وينسيهم ما كانوا فيه من فخر وخيلاء وغرور .
قال الآلوسى ما ملخصه : ووضع - سبحانه - المظهر موضع المضمر ؛ للإِشعار بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعم الله ، ومن كان كافراً لنعمه فله عذاب يهينه كما أهان النعم بالبخل والإِخفاء .
وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالا من الأنصار فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر فى ذهابها ، ولا تسارعوا فى النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون . فأنزل الله قوله - تعالى - { الذين يَبْخَلُونَ } إلى قوله : { وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً } .
وقيل : نزلت فى الذين كتموا صفة النبى صلى الله عليه وسلم وبخلوا بحق الله عليهم وهم أعداء الله - تعالى - أهل الكتاب .
{ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } بدل من قوله من كان ، أو نصب على الذم أو رفع عليه أي هم الذين ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره الذين يبخلون بما منحوا به ويأمرون الناس بالبخل به . وقرأ حمزة والكسائي ههنا وفي " الحديد " { بالبخل } بفتح الحرفين وهي لغة . { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } الغنى والعلم فهم أحقاء بكل ملامة . دوأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه هو كافر لنعمة الله ، وما كان كافرا لنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء . والآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار تنصيحا : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر . وقيل في الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم .
يجوز أن يكون استئنافاً ابتدائياً ، جيء به عقب الأمر بالإحسان لمن جرى ذكرهم في الجملة السابقة ، ومناسبة إرداف التحريض على الإحسان بالتحذير من ضدهّ وما يشبه ضدّه من كلّ إحسان غير صالح ؛ فقوبل الخُلق الذي دعاهم الله إليه بأخلاق أهل الكفر وحِزب الشيطان كما دلّ عليه ما في خلال هذه الجملة من ذِكر الكافرين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .
فيكون قوله : { الذين يبخلون } مبتدأ ، وحُذف خبره ودَلّ عليه قولُه : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } . وقُصد العدول عن العطف : لتكون مستقلّة ، ولما فيه من فائدة العموم ، وفائدة الإعلام بأنّ هؤلاء من الكافرين . فالتقدير : الذين يبخلون أعتدنا لهم عذاباً مهينا وأعتدنا ذلك للكافرين أمثالهم ، تكون جملة : { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } معطوفة أيضاً على جملة { والذين يبخلون } محذوفة الخبر أيضاً ، يدلّ عليه قوله : { ومن يكن الشيطان له قرينا } إلخ . والتقدير : والذين ينفقون أموالهم رثاء الناس قرينهم الشيطان . ونكتة العدول إلى العطف مثل نكتة ما قبلها .
ويجوز أن يكون { الذين يبخلون } بدلاَ من ( مَن ) في قوله : { من كان مختالاً فخوراً } [ النساء : 36 ]
يكون قوله : { والذين ينفقون أموالهم } معطوفاً على { الذين يبخلون } ، وجملة { وأعتدنا } معترضة . وهؤلاء هم المشركون المتظاهرون بالكفر ، وكذلك المنافقون .
والبخل بضمّ الباء وسكون الخاء اسم مصدر بخل من باب فرح ، ويقال البَخَل بفتح الباء والخاء وهو مصدره القياسي ، قرأه الجمهور بضم الباء وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلَف بفتح الباء والخاء .
والبخل : ضدّ الجود وقد مضى عند قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } في سورة آل عمران ( 180 ) . ومعنى { ويأمرون الناس بالبخل } يحضّون الناس عليه ، وهذا أشدّ البخل ، قال أبو تمّام :
وإنّ امر أضنّت يداه على امرىء *** بنيل يَدٍ من غيره لبخيل
والكتمان : الإخفاء . و { ما آتاهم الله من فضله } يحتمل أنّ المراد به المال ، كقوله تعالى : { ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } [ آل عمران : 180 ] ؛ فيكون المعنى : أنّهم يبخلون ويعتذرون بأنّهم لا يجدون ما ينفقون منه ، ويحتمل أنّه أريد به كتمان التوراة بما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الاحتمال الأوّل يكون المراد بالذين يبخلون : المنافقين ، وعلى الثاني يكون المراد بهم : اليهود ؛ وهذا المأثور عن ابن عباس . ويجوز أن تكون في المنافقين ، فقد كانوا يأمرون الناس بالبخل { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } [ المنافقون : 7 ] . وقوله : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } ، عَقِبَه ، يؤذن بأنّ المراد أحد هذين الفريقين . وجملة : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } معترضة .
وأصل و { أعتدنا } أعددنا ، أبدلت الدال الأولى تاء ، لثقل الدالين عند فكّ الإدغام باتّصال ضمير الرفع ، وهكذا مادّة أعدّ في كلام العرب إذا أدغموها لم يبدلوا الدال بالتاء لأنّ الإدغام أخفّ ، وإذا أظهروا أبدلوا الدال تاء ، ومن ذلك قولهم : عَتاد لعُدّة السلاح ، وأعْتُد جمع عتاد .