اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (37)

في : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } سَبْعَة أوجه :

أحدها : أن يكُون مَنْصُوباً بدلاً مِنْ " مَنْ " ، وجُمِعَ حَمْلاً على المَعْنَى .

الثاني : أنه نَصْب على البَدَل من { مُخْتَالاً } وجُمِعَ أيضاً لما تقَدَّم .

الثالث : أنه نُصِبَ على الذَّمِّ .

قال القرطبِي{[7858]} : ويجوز أن يكُون مَنْصُوباً بإضْمَار " أعْنِي " ، وقالَ : ولا يجوز أن يكون صِفَة ؛ لأن " مَنْ " و " ما " لا يوصفان ولا يُوصَفُ بهما .

الرابع : أنه مُبْتَدأ وفي خَبَره قولان :

أحدُهُما : محذوف فَقَدَّرهُ بعضُهم : " مبغضون " لدلالة { إن الله لا يحب } [ وبعضهم : ]{[7859]} " معذبون " ؛ لقوله : { وأعتدنا للكافرين عذاباً } .

وقدَّره الزمخشري{[7860]} " أحقَّاء بكل مَلاَمَة " ، وقدره أبو البَقَاء : أُولَئِكَ أوْلِيَاؤُهُم{[7861]} الشَّيْطَان .

والثاني : أن قوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ويكون قوله : [ { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } ]{[7862]} عطفاً على المُبْتدأ والعَائِد مَحْذُوفٌ ، والتقدير : الذين يَبْخَلُون ، والَّذين يُنْفِقُون أموالهم ، [ رئاء النَّاسِ ]{[7863]} { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة } ، [ أو مثقال ذرة ]{[7864]} لَهُم ، وإليه ذَهَب الزَّجَّاج وهذا متكَلَّف جدًّا ؛ لكثرة الفَواصِل ولقَلَقِ{[7865]} المَعْنَى أيضاً .

الخامس : أنه خبر مُبْتَدأ مُضْمَر ، أي : هم{[7866]} الذين .

السادس : أنه بَدَلٌ من الضَّميرِ المستكن{[7867]} في { فَخُوراً } ذكره أبو البَقَاء{[7868]} ، وهو قلق .

السابع : أنه صِفَة ل " مَنْ " ؛ كأنه قيل : لا يُحِبُّ المختالَ الفَخْور البَخِيل .

وفي البخل أرْبَع لُغاتٍ :

فتح الخَاءِ والبَاء مثل الكَرَم ، وبها قرأ حَمْزَةُ والكسائي{[7869]} ، وبِضمِّهَا ذكره المُبرِّد ، وبها قرأ الحَسَنُ وعِيسَى بن عُمَر{[7870]} ، وبفتح البَاءِ وسُكُون الخَاء ، وبها{[7871]} قرأ قتادةُ وابن الزبير ، وبضم الباء وسكون الخاء ، وبها قرأ الجمهور{[7872]} . والبُخْلُ والبَخَلُ ؛ كالحُزْنِ والحَزَن ، والعُرْبِ والعَرَبِ .

قوله : { بِالْبُخْلِ } فيه وجْهَان :

أحدهما : أنه مُتَعلِّق ب " يَأمُرُونَ " ، فالبَاء للتَّعْدِية على حَدّ أمرتك بِكَذَا{[7873]} .

والثَّاني : أنها باء الحاليّة والمأمور مَحْذُوف ، والتَّقْدير : ويأمرون النَّاسَ بشكرهم مع التباسِهِم{[7874]} بالبُخْل ، فيكون في المعنَى ؛ لقول الشَّاعر : [ البسيط ]

أجْمَعْتَ أمْرَيْنِ ضَاعَ الحَزْمُ بَيْنَهُمَا *** تِيهَ المُلُوكِ وأفْعَالَ المَمَالِيكِ{[7875]}

فصل

قال الواحدي{[7876]} : البُخْلُ في كلامِ العَرَب عبارة عن مَنْع الإحْسَان ، وفي الشَّرِيعَةِ عبارة عن مَنْعِ الوَاجِبِ .

قال ابن عبَّاس : نزلت في اليَهُود ، بخلوا بِبَيَان صِفَة محمَّد صلى الله عليه وسلم وكَتمُوها{[7877]} . وقال سعيد بن جبير : هَذَا في كِتْمَان العِلْمِ{[7878]} .

وقال ابن عبَّاسٍ وابن زيد : نَزَلَتْ في كردم بن يزيد ، وحُيَيٍّ بن أخْطَب ، ورِفَاعة بن التَّابُوت وأسَامة بن حَبِيبٍ ، ونَافِع بن أبِي نافع ، وبحري بن عمرو ، وكانُوا يأتُون رجالاً من الأنْصَارِ يُخَالِطُونَهُم ، فيقولون : لا تُنْفِقُوا أموالكُم ، فإنّا نَخْشَى عليكم الفَقْرَ ولا تَدْرُون مَا يَكُون ، فأنزل هذه الآية{[7879]} .

وقيل : إنها عَامَّة في البُخْلِ بالعِلْم والدِّين والمَالِ : لأن البخل مَذْمُومٌ واللفظ عامٌّ .

قال القرطبي{[7880]} : والمراد بهذه الآيَةِ في قَوْل ابن عبَّاس وغيره : اليَهُود ؛ لأنهم جمَعُوا بين الاختيال والتَّفاخر ، والبخل بالمَالِ ، وكِتْمَان ما أنْزَل اللَّه في التَّوْرَاة من صِفَةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقيل المراد : المُنَافِقُون الذي{[7881]} كان إنْفاقهم{[7882]} وإيمانهم تقية .

قوله : { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } يعني المال ، وقيل : يَبْخَلُون بالصَّدَقَة ، وقوله : { مِن فَضْلِهِ } ، يجوز أن يتعلَّق ب { آتَاهُمُ } أو بمَحْذُوف على أنه حالٌ من " مَا " ، أو من العَائِد عَلَيْها .

قال تعالى { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } فصَّل الله - تعالى - تَوعُّدَ{[7883]} المؤمنين البَاخِلين من تَوَعُّد الكَافِرِين ، بأن جعل الأوَّل عدم المَحبَّة ، والثَّاني عذاباً مُهِيناً .


[7858]:ينظر: تفسير القرطبي 5/126.
[7859]:سقط في أ.
[7860]:ينظر: الكشاف 1/509.
[7861]:في ب: قرناؤهم.
[7862]:سقط في ب.
[7863]:سقط في أ.
[7864]:سقط في ب.
[7865]:في ب: لتعلق.
[7866]:في أ: ثم.
[7867]:في أ: المتمكن.
[7868]:ينظر: الإملاء 1/179.
[7869]:انظر: الحجة 3/160، وحجة القراءات 203، وإعراب القراءات 133، والعنوان 84، وشرح الطيبة 4/206، وشرح شعلة 339، وإتحاف 1/511، الدر المصون 2/362، البحر المحيط 3/257.
[7870]:انظر: المحرر الوجيز 2/52، والبحر المحيط 3/257، والدر المصون 2/362.
[7871]:انظر: البحر المحيط 3/257، والدر المصون 2/362.
[7872]:ينظر: الدر المصون 2/362، والمحرر الوجيز 2/52.
[7873]:في أ: بهذا.
[7874]:في أ: اتباعهم.
[7875]:ينظر البيت في البحر المحيط 3/257 والدر المصون 2/362.
[7876]:ينظر: تفسير الرازي 10/80.
[7877]:ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (10/80) عن ابن عباس.
[7878]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/352) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/289) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
[7879]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/353) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/289) وزاد نسبته لابن إسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم. والأثر ذكره ابن هشام في "السيرة النبوية" (2/208 ـ 209).
[7880]:ينظر: تفسير القرطبي 5/126.
[7881]:في أ: الذين.
[7882]:في ب: نفاقهم.
[7883]:في أ: تواعد.