مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (37)

قوله تعالى : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا } .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي : { بالبخل } بفتح الباء والخاء ، وفي الحديد مثله ، وهي لغة الأنصار ، والباقون { بالبخل } بضم الباء والخاء وهي اللغة العالية .

المسألة الثانية : الذين يبخلون : بدل من قوله : { من كان مختالا فخورا } والمعنى : أن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ولا يحب الذين يبخلون ، أو نصب على الذم . ويجوز أن يكون رفعا على الذم ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل : الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون : أحقاء بكل ملامة .

المسألة الثالثة : قال الواحدي : البخل فيه أربع اللغات : البخل . مثل القفل ، والبخل مثل الكرم ، والبخل مثل الفقر ، والبخل بضمتين . ذكره المبرد ، وهو في كلام العرب عبارة عن منع الإحسان ، وفي الشريعة منع الواجب .

المسألة الرابعة : قال ابن عباس : أنهم اليهود ، بخلوا أن يعترفوا بما عرفوا من نعت محمد عليه الصلاة والسلام وصفته في التوراة ، وأمروا قومهم أيضا بالكتمان { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } يعني من العلم بما في كتابهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم { وأعتدنا } في الآخرة لليهود { عذابا مهينا } واحتج من نصر هذا القول : بأن ذكر الكافر في آخر الآية يدل على أن المراد بأولها الكافر . وقال آخرون : المراد منه البخل بالمال ، لأنه تعالى ذكره عقيب الآية التي أوجب فيها رعاية حقوق الناس بالمال ، فإنه قال : { وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل } ومعلوم أن الإحسان إلى هؤلاء إنما يكون بالمال ، ثم ذم المعرضين عن هذا الإحسان فقال : { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } ثم عطف عليه { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } فوجب أن يكون هذا البخل بخلا متعلقا بما قبله ، وما ذاك إلا البخل بالمال .

والقول الثالث : أنه عام في البخل بالعلم والدين ، وفي البخل بالمال ، لأن اللفظ عام ، والكل مذموم ، فوجب كون اللفظ متناولا للكل .

المسألة الخامسة : أنه تعالى ذكر في هذه الآية من الأحوال المذمومة ثلاثا : أولها : كون الإنسان بخيلا وهو المراد بقوله : { الذين يبخلون } وثانيها : كونهم آمرين لغيرهم بالبخل ، وهذا هو النهاية في حب البخل ، وهو المراد بقوله : { ويأمرون الناس بالبخل } وثالثها : قوله : { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } فيوهمون الفقر مع الغنى ، والإعسار مع اليسار ، والعجز مع الإمكان ، ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر ، مثل أن يظهر الشكاية عن الله تعالى ، ولا يرضى بالقضاء والقدر ، وهذا ينتهي إلى حد الكفر ، فلذلك قال : { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } ومن قال : الآية مخصوصة باليهود ، فكلامه في هذا الموضع ظاهر ، لأن من كتم الدين والنبوة فهو كافر ، ويمكن أيضا أن يكون المراد من هذا الكافر ، من يكون كافرا بالنعمة ، لا من يكون كافرا بالدين والشرع .