فقالوا ردا لدعوته ، ومعارضة له بما ليس يصلح للمعارضة : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ } أي : كيف نتبعك ونحن لا نرى أتباعك إلا أسافل الناس ، وأراذلهم ، وسقطهم . بهذا يعرف تكبرهم عن الحق ، وجهلهم بالحقائق ، فإنهم لو كان قصدهم الحق ، لقالوا - إن كان عندهم إشكال وشك في دعوته - بيّن لنا صحة ما جئت به بالطرق الموصلة إلى ذلك ، ولو تأملوا حق التأمل ، لعلموا أن أتباعه ، هم الأعلون ، خيار الخلق ، أهل العقول الرزينة ، والأخلاق الفاضلة ، وأن الأرذل ، من سلب خاصية عقله ، فاستحسن عبادة الأحجار ، ورضي أن يسجد لها ، ويدعوها ، وأبى الانقياد لدعوة الرسل الكمل . وبمجرد ما يتكلم أحد الخصمين في الكلام الباطل ، يعرف فساد ما عنده بقطع النظر عن صحة دعوى خصمه ، فقوم نوح ، لما سمعنا عنهم ، أنهم قالوا في ردهم دعوة نوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ } فبنوا على هذا الأصل ، الذي كل أحد يعرف فساده ، رد دعوته - عرفنا أنهم ضالون مخطئون ، ولو لم نشاهد من آيات نوح ودعوته العظيمة ، ما يفيد الجزم واليقين ، بصدقه وصحة ما جاء به .
فماذا كان ردهم على هذا القول الحكيم لنبيهم ؟ لقد حكى القرآن ردهم فقال : { قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } .
والأرذلون : جمع الأرذل . وهو الأقل من غيره فى المال والجاه والنسب .
أى : قال قوم نوح له عندما دعاهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - : يا نوح أنؤمن لك ، والحال أن الذين اتبعوك من سفلة الناس وفقرائهم ، وأصحاب الحرف الدنيئة فينا .
وهذا المنطق المرذول قد حكاه القرآن فى كثير من آياته ، على ألسنة المترفين ، وهم يردون على أنبيائهم عندما يدعونهم إلى الدين الحق . .
يقولون : أنؤمن لك ونتبعك ، ونتساوى في ذلك بهؤلاء الأراذل{[21798]} الذين اتبعوك وصدقوك ، وهم أراذلنا{[21799]} ؛ ولهذا قالوا : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ . قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ؟ أي : وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي ، ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه لا يلزمني التنقيب عنه والبحث والفحص ، إنما عليَّ أن أقبل منهم تصديقهم{[21800]} إياي ، وأكل سرائرهم إلى الله ، عز وجل .
{ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ } ، كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ليتابعوه{[21801]} ، فأبى عليهم ذلك ، وقال : { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : إنما بعثت نذيرًا ، فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وكنت منه ، سواء كان شريفًا أو وضيعًا ، أو جليلا أو حقيرًا .
فذهب أشرافهم إلى استنقاص أتباعه بسبب صغار الناس الذين اتبعوه وضعفائهم ، وهذا كفعل قريش في شأن عمار بن ياسر وصهيب وغيرهما ، وقال بعض الناس { الأرذلون } الحاكة ، والحجامون والأساكفة ، وفي هذا عندي على جهة المثال ، أي أهل الصنائع الخسيسة لا أن هذه الصنائع المذكورة خصت بهذا .
و { الأرذلون } جمع الأرذل ولا يستعمل إلا معرفاً أو مضافاً أو ب «من » .
وإعراب قوله «وأتباعك » إما جملة في موضع الحال وإما عطف على الضمير المرفوع وحسن لك الفصل بقوله { لك }{[1]} .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر من الآية أن مراد { قوم نوح } بنسبة الرذيلة إلى المؤمنين تهجين أفعالهم لا النظر في صنائعهم ، يدل على ذلك قول نوح { ما علمي } الآية ، لأن معنى كلامه ليس في نظري وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة إنما أقنع بظاهرهم وأجتزىء به ، ثم حسابهم على الله تعالى ، وهذا نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس » الحديث بجملته{[1]} ، وقرأ جمهور الناس «واتبعك » على الفعل الماضي ، وقرأ ابن السميفع اليماني وسعيد بن أسعد الأنصاري «وأتباعك » على الجمع ، ونسبها أبو الفتح إلى ابن مسعود والضحاك وطلحة ، قال أبو عمرو وهي قراءة ابن عباس والأعمش وأبي حيوة{[1]} .
جملة : { قالوا } استئناف بياني لما يثيره قوله : { كذبت قوم نوح } [ الشعراء : 105 ] من استشراف السامع لمعرفة ما دار بينهم وبين نوح من حوار ، ولذلك حكيت مجادلتهم بطريقة : قالوا ، وقال . والقائلون : هم كبراء القوم الذين تصدّوا لمحاورة نوح .
والاستفهام في { أنؤمن } استفهام إنكاري ، أي لا نؤمن لك وقد اتّبعك الأرذلون فجملة : { واتبعك } حالية .
و { الأرذلون } : سَقَط القوم موصوفون بالرذالة وهي الخِسّة والحقارة ، أرادوا بهم ضعفاء القوم وفقراءهم فتكبروا وتعاظموا أن يكونوا والضعفاءَ سواء في اتّباع نوح . وهذا كما قال عظماء المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم لما كان من المؤمنين عمَّار وبلال وزيدُ بن حارثة : أنحن نكون تبعاً لهؤلاء أطرِدْهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك . فأنزل الله تعالى : { ولا تَطْرُد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } الآيات من سورة الأنعام ( 52 ) .
وقرأ الجمهور : { واتَّبعَك } بهمزة وصل وتشديد التاء الفوقية على أنه فعل مضي من صيغة الافتعال . والمعنى : أنهم كانوا من أتباعه أو كانوا أكثر أتباعه . وقرأ يعقوب { وأتْبَاعُك } بهمزة قطع وسكون الفوقية وألف بعد الموحدة على أنه جمع تابع . والمعنى : أنهم أتباعه لا غيرهم فالصيغة صيغةُ قصر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.