معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (190)

قوله تعالى : { فلما آتاهما صالحا } ، بشراً سوياً .

قوله تعالى : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } ، قرأ أهل المدينة وأبو بكر : { شركا } بكسر الشين والتنوين ، أي : شركة ، قال أبو عبيدة : أي حظاً ونصيباً ، وقرأ الآخرون : { شركاء } بضم الشين ممدوداً على جمع شريك ، يعني : إبليس ، أخبر عن الواحد بلفظ الجمع ، أي : جعلا له شريكاً إذ سمياه عبد الحارث ، ولم يكن هذا إشراكاً في العبادة ، ولا أن الحارث ربهما ، فإن آدم كان نبياً معصوماً من الشرك ، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه ، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه معبود هذا ، كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف ، على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه ، ويقول للغير : أنا عبدك ، وقال يوسف لعزيز مصر : إنه ربي ، ولم يرد به أنه معبوده ، كذلك هذا .

قوله تعالى : { فتعالى الله عما يشركون } ، قيل : هذا ابتداء كلام ، وأراد به إشراك أهل مكة ، ولئن أراد به ما سبق فمستقيم من حيث إنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم ، وفي الآية قول آخر وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم ، وهو قول الحسن وعكرمة ، ومعناه : جعل أولادهما له شركاء ، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم ، كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم بفعل الآباء فقال : { ثم اتخذتم العجل } ، { وإذ قتلتم نفساً } خاطب به اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك الفعل من آبائهم . وقيل : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا ، وقال ابن كيسان : هم الكفار ، سموا أولادهم عبد العزى ، وعبد اللات ، وعبد مناة . وقال عكرمة : خاطب كل واحد من الخلق بقوله { خلقكم } أي خلق كل واحد من أبيه ، { وجعل منها زوجها } ، أي : جعل من جنسها زوجها ، وهذا قول حسن لولا قول السلف مثل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، ومجاهد ، وسعيد بن المسيب ، وجماعة المفسرين : أنه في آدم وحواء .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (190)

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا على وفق ما طلبا ، وتمت عليهما النعمة فيه جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا أي : جعلا للّه شركاء في ذلك الولد الذي انفرد اللّه بإيجاده والنعمة به ، وأقرَّ به أعين والديه ، فَعَبَّدَاه لغير اللّه . إما أن يسمياه بعبد غير اللّه ك " عبد الحارث " و " عبد العزيز " {[335]} و " عبد الكعبة " ونحو ذلك ، أو يشركا باللّه في العبادة ، بعدما منَّ اللّه عليهما بما منَّ من النعم التي لا يحصيها أحد من العباد .

وهذا انتقال من النوع إلى الجنس ، فإن أول الكلام في آدم وحواء ، ثم انتقل إلى الكلام في الجنس ، ولا شك أن هذا موجود في الذرية كثيرا ، فلذلك قررهم اللّه على بطلان الشرك ، وأنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم ، سواء كان الشرك في الأقوال ، أم في الأفعال ، فإن الخالق لهم من نفس واحدة ، الذي خلق منها زوجها وجعل لهم من أنفسهم أزواجا ، ثم جعل بينهم من المودة والرحمة ما يسكن بعضهم إلى بعض ، ويألفه ويلتذ به ، ثم هداهم إلى ما به تحصل الشهوة واللذة والأولاد والنسل .

ثم أوجد الذرية في بطون الأمهات ، وقتا موقوتا ، تتشوف إليه نفوسهم ، ويدعون اللّه أن يخرجه سويا صحيحا ، فأتم اللّه عليهم النعمة وأنالهم مطلوبهم .

أفلا يستحق أن يعبدوه ، ولا يشركوا به في عبادته أحدا ، ويخلصوا له الدين .


[335]:- في ب: العزى.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (190)

{ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } أى : فحين أعطاهما - سبحانه - الولد الصالح الذي كانا يتمنيانه ، جعلا لله - تعالى - شركاء في هذه العطاء ، وأخلا بالشكر في مقابلة هذه النعمة أسوأ إخلال ، حيث نسبوا هذا العطاء إلى الأصنام والأوثان ، أو إلى الطبيعة كما يزعم الطبعيون أو إلى غير ذلك مما يتنافى مع إفراد الله - تعالى - بالعبادة والشكر .

وقوله { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه فيه معنى التعجيب من أحوالهم . أى : تنزه - سبحانه - وتقدس عن شرك هؤلاء الأغبياء الجاحدين الذين يقابلون نعم الله بالإشراك والكفران .

والضمير في { يُشْرِكُونَ } يعود على أولئك الآباء الذين جعلوا لله شركاء : هذا والمحققون من العلماء يرون أن هاتين الآيتين قد سيقتا توبيخا للمشركين حيث إن الله - تعالى - أنعم عليهم بخلقهم من نفس واحدة ، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن ، وأعطاهم الذرية ، وأخذ عليهم العهود بشكره على هذه النعم ، ولكنهم جحدوا نعمه وأشركوا معه في العبادة والشكر آلهة أخرى { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

ويرى بعض المفسرين أن المراد بهذا السياق آدم وحواء ، واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام أحمد - بسنده - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لما طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش ، وكان ذلك من وحى الشيطان وأمره .

وقد أثبت ابن كثير في تفسيره ضعف هذا الحديث من عدة وجوه ، ثم قال : قال الحسن : عنى الله - تعالى - بهذه الآية ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده ، وقال قتادة : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى رزقهم الله اولاداً فهودوا ونصروا . قال ابن كثير : وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية ، ونحن على مذهب الحسن البصرى في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، ولهذا قال : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

وقال صاحب الانتصاف : والأسلم والأقرب أن يكون المراد - والله أعلم - جنسى الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين . وكأن المعنى خلقكم جنسا واحداً ، وجعل أزواجكم منكم أيضاً لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر ، الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت . وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون على حد قولهم : " بنو فلان قتلوا قتيلا " يعنى من نسبة البعض إلى الكل .

والذى نراه أن الآيتين ورادتان في توبيخ المشركين على شركهم ونقضهم لعهودهم مع الله - تعالى - لأن الأحاديث والأثار التي وردت في أنهما وردتا في شأن آدم وحواء لتسميتها ابنهما بعبد الحارث اتباعاً لوسوسة الشيطان لهما - ليست صحيحة ، كما أثبت ذلك علماء الحديث .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (190)

{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ذكر المفسرون هاهنا آثارا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها ، ثم نتبع ذلك بيان الصحيح في ذلك ، إن شاء الله وبه الثقة .

قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عمر بن إبراهيم ، حدثنا قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي{[12508]} صلى الله عليه وسلم قال : " ولما ولدت حواء طاف بها إبليس - وكان لا يعيش لها ولد - فقال : سميه عبد الحارث ؛ فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث ، فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره " .

وهكذا رواه{[12509]} ابن جرير ، عن محمد بن بشار ، بُنْدَار ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، به .

ورواه الترمذي في تفسيره{[12510]} هذه الآية عن محمد بن المثنى ، عن عبد الصمد ، به وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ، عن قتادة ، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ، ولم يرفعه .

ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الصمد مرفوعًا ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره ، عن أبي زُرْعَة الرازي ، عن هلال بن فياض ، عن عمر بن إبراهيم ، به مرفوعًا .

وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض ، عن عمر بن إبراهيم ، به مرفوعا{[12511]}

قلت : " وشاذ " [ هذا ]{[12512]} هو : هلال ، وشاذ لقبه . والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري ، وقد وثقه ابن معين ، ولكن قال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به . ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن سمرة{[12513]} مرفوعا فالله أعلم .

الثاني : أنه قد روي من قول سمرة نفسه ، ليس مرفوعًا ، كما قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه . وحدثنا ابن علية{[12514]} عن سليمان التيمي ، عن أبي العلاء بن الشخير ، عن سمرة بن جندب ، قال : سمى آدم ابنه " عبد الحارث " .

الثالث : أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا ، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعًا ، لما عدل عنه .

قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } قال : كان هذا في بعض أهل الملل ، ولم يكن بآدم{[12515]}

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : قال الحسن : عنى بها ذرية آدم ، ومن أشرك منهم بعده - يعني : [ قوله ]{[12516]} { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا }{[12517]}

وحدثنا بشر{[12518]} حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادًا ، فهوّدوا ونَصَّروا{[12519]}

وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن ، رحمه الله ، أنه فسر الآية بذلك ، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت{[12520]} عليه الآية ، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما عدل عنه هو ولا غيره ، ولا سيما مع تقواه لله وَوَرَعه ، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب ، من آمن منهم ، مثل : كعب أو وهب بن مُنَبّه وغيرهما ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله [ تعالى ]{[12521]} إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع ، والله أعلم .

فأما{[12522]} الآثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار ، عن داود بن الحُصَين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت حواء تلد لآدم ، عليه السلام ، أولادا فيعبدهم لله ويُسَمّيه : " عبد الله " و " عبيد الله " ، ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس وآدم فقال : إنكما لو تسميانه بغير الذي تُسميانه به لعاش{[12523]} قال : فولدت له رجلا{[12524]} فسماه " عبد الحارث " ، ففيه أنزل الله ، يقول الله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى قوله : { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } إلى آخر الآية .

/خ190


[12508]:في د: "رسول الله".
[12509]:في أ: "وروي".
[12510]:في د، ك، م، أ: "تفسير".
[12511]:المسند (5/11) وتفسير الطبري (13/309)، وسنن الترمذي برقم (3077)، والمستدرك (2/545).
[12512]:زيادة من أ.
[12513]:في أ: "حمزة".
[12514]:في د، ك، م: "بكر بن عبد الله".
[12515]:تفسير الطبري (13/314).
[12516]:زيادة من ك، م، أ.
[12517]:تفسير الطبري (13/314).
[12518]:في أ: "بشير".
[12519]:تفسير الطبري (13/315).
[12520]:في أ: "ما دلت".
[12521]:زيادة من م.
[12522]:في د، م: "وأما".
[12523]:في ك: "فعاش".
[12524]:في أ: "ولدا".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (190)

يقال إن الآية المتقدمة هي في أدم وحواء وإن الضمير في قوله { آتاهما } عائد عليهما ، قال إن الشرك الذي جعلاه هو في الطاعة ، أي أطاعا إبليس في التسمية بعبد الحارث كما كانا في غير ذلك مطيعين لله ، وأسند الطبري في ذلك حديثاً من طريق سمرة بن جندب ، ويحتمل أن يكون الشرك في أن جعلا عبوديته بالاسم لغيره ، وقال الطبري والسدي في قوله تعالى : { فتعالى الله عما يشركون } إنه كلام منفصل ليس من الأول ، وإن آدم وحواء تم في قوله { فلما آتاهم } ، وإن هذا كلام يراد به مشركوا العرب .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تحكم لا يساعده اللفظ ، ويتجه أن يقال تعالى الله عن ذلك اليسير المتوهم من الشرك في عبودية الاسم ، ويبقى الكلام في جهة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام ، وجاء الضمير في { يشركون } ضمير جمع لأن إبليس مدبر معهما تسمية الولد عبد الحارث ، ومن قال إن الآية المتقدمة إنما الغرض منها تعديد النعمة في الأزواج وفي تسهيل النسل والولادة ثم ذكر سوء فعل المشركين بعقب ذلك ، قال في الآية الأخيرة إنها على ذلك الأسلوب وإن قوله { فتعالى الله عما يشركون } المراد بالضمير فيه المشركين ، والمعنى في هذه الآية فلما آتى الله هذين ا?نسانين صالحاً أي سليماً ذهبا به إلى الكفر وجعلا لله فيه شركاً وأخرجاه عن الفطرة ، ولفظة الشرك تقتضي نصيبين ، فالمعنى : وجعلا لله فيه ذا شرك لأن إبليس أو أصنام المشركين هي المجعولة ، والأصل أن الكل لله تعالى وبهذا حل الزجاج اعتراض من قال ينبغي أن يكون الكلام «جعلا لغيره شركاً » وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «شِرْكاً » بكسر الشين وسكون الراء على المصدر ، وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد وعاصم وأبان بن تغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم «شركاء » على الجمع ، وهي بينة على هذا التأويل الأخير وقلقه على قول من يقول : إن الآية الأولى في آدم وحواء ، وفي مصحف أبيّ ابن كعب «فلما آتاهما صالحاً أشركا فيه » ، وذكر الطبري في قصص حواء وآدم وإبليس في التسمية بعيد الحارث وفي صورة مخاطبتهم أشياء طويلة لا يقتضي الاختصار ذكرها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (190)

معنى { فلما آتاهما صالحاً } لما أتى من أتاه منهم ولداً صالحاً وضمير { جعلا } للنفس الواحدة وزوجها ، أي جعل الأبوان المشركان .

و« الشِّرْك » مصدر شَرَكه في كذا ، أي جعلا لله شركة ، والشركة تقتضي شريكاً أي جعلا لله شريكاً فيما آتاهما الله ، والخبر مراد منه مع الإخبار التعجيب من سفه آرائهم ، إذ لا يجعل رشيدُ الرأي شريكاً لأحد في ملكه وصنعه بدون حق ، فلذلك عُرف المشروك فيه بالموصولية فقيل { فيما آتاهما } دون الإضمار بأن يقال : جعلا له شركاً فيه : لما تؤذن به الصلة من فساد ذلك الجعْل ، وظُلم جاعله ، وعدم استحقاق المجعول شريكاً لما جعل له ، وكفران نعمة ذلك الجاعل ، إذ شَكَر لمن لم يُعطه ، وكفر من أعطاه ، وإخلاف الوعد المؤكد .

وجُعل الموصول ( ما ) دون ( منَ ) باعتبار أنه عطية ، أو لأن حالة الطفولة أشبه بغير العاقل .

وهذا الشرك لا يخلو عنه أحد من الكفار في العرب ، وبخاصة أهل مكة ، فإن بعض المشركين يجعل ابنه سادنا لبيوت الأصنام ، وبعضهم يحْجُر ابنه إلى صنم ليحفظه ويرعاه ، وخاصة في وقت الصبا ، وكل قبيلة تنتسب إلى صنمها الذي تعبده ، وبعضهم يسمى ابنه : عبد كذا ، مضافاً إلى اسم صنم كما سَمُّوا عبدَ العُزى ، وعبدَ شمس ، وعبدَ مناة ، وعبدَ يا ليل ، وعبدَ ضخم ، وكذلك امرؤ القيس ، وزيد مناءة ، لأن الإضافة على معنى التمليك والتعبيد ، وقد قال أبو سفيان ، يومَ أحد : « اعْلُ هُبل » وقالت امرأة الطفيل لزوجها الطفيل بن عَمرو الدوسي حين أسلم وأمرها بأن تسلم « لا نخشى على الصبية من ( ذي الشّرَى ) شيئاً » ذو الشرى صنم .

وجملة : { فتعالى الله عما يشركون } أي : تنزه الله عن إشراكهم كله : ما ذُكر منه آنفاً من إشراك الوالدين مع الله فيما آتاهما ، وما لم يذكر من أصناف إشراكهم .

وموقع فاء التفريع في قوله : { فتعالى الله } موقع بديع ، لأن التنزيه عما أحدثوه من الشرك يترتب على ما قبله من انفراده بالخلْق العجيب ، والمنن العظيمة ، فهو متعال عن إشراكهم لا يليق به ذلك ، وليس له شريك بحق ، وهو إنشاء تنزيه غيرُ مقصود به مخاطب .

وضمير الجمع في قوله : { يُشركون } عائد إلى المشركين الموجودين لأن الجملة كالنتيجة لما سبقها من دليل خَلْق الله إياهم .

وقد روَى الترمذي وأحمد : حديثاً عن سُمرة بن جندب ، في تسويل الشيطان لحواء أن تسمي ولدها عبد الحارث ، والحارث اسم إبليس ، قال الترمذي حديث حسن غريب ، ووسمه ابن العربي في « أحكام القرآن » ، بالضعف ، وتبعه تلميذه القرطبي وبيّن ابنُ كثير ما في سنده من العلل ، على أن المفسرين ألصقوه بالآية وجعلوه تفسيراً لها ، وليس فيه على ضعفه أنه فسّر به الآية ولكن الترمذي جعله في باب تفسير سورة الأعراف من « سنُنه » .

وقال بعض المفسرين : الخطاب في { خلقكم من نفس واحدة } لقريش خاصة ، والنفس الواحدة هو قُصي بنُ كلاب تزوج امرأة من خُزاعة فلما آتاهما الله أولاداً أربعة ذكوراً سمى ثلاثة منهم عبد مناف ، وعبد العُزى ، وعبد الدار ، وسمى الرابع « عبداً » بدون إضافة وهو الذي يُدعى بعبْد قُصي .

وقرأ نافع ، وعاصم في رواية أبي بكر عنه ، وأبو جعفر : شِرْكاً بكسر الشين وسكون الراء أي اشْتراكاً مع الله ، والمفعول الثاني لفعل جعلا محذوف للعلم به ، أي جعلا له الأصنام شركاً ، وقرأ بقية العشرة شُركاء بضم الشين جمع شريك ، والقراءتان متحدتان معنى .

وفي جملة : { فتعالى الله عما يشركون } محسن من البديع وهو مجيء الكلام متزناً على ميزان الشعر ، من غير أن يكون قصيدة ، فإن هذه الجملة تدخل في ميزان الرَمل .

وفيها الالتفات من الخطاب الذي سبق في قوله : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } وليس عائد إلى ما قبله ، لأن ما قبله كان بصيغة المثنى خمس مرات من قوله : { دَعوا الله ربهما } إلى قوله { فيما آتاهما } .