الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (190)

{ فلما آتاهما صالحا }[ 190 ] . أي : بشرا{[26396]} .

{ جعلا له شركا فيما آتاهما }[ 190 ] .

قال ابن جبير : جاءها إبليس فخوفها أن يكون حملها بهيمة . وقال : أطيعني وسميه : " عبد الحارث " تلدين شبهكما ، فذكرت ذلك لآدم ، فقال : هو صاحبنا الذي علمت . فمات الولد ، ثم حملت أخرى{[26397]} ، فعاد إليها إبليس بمثل ذلك ، وكان الملعون اسمه في الملائكة : " الحارث " . وقال لها : أنا قتلت الأول ، فذكرت ذلك لآدم ( عليه السلام ){[26398]} ، فأبى . ثم حملت ثالثا ، وعاد إليها إبليس بمثل الأول ، فذكرت ذلك لآدم ، فكأنه لم يكرهه ، فسمه{[26399]} : " عبد الحارث " .

قال ابن جبير : لم يكن إلا أن أصابها آدم فحملت ، فليس إلا أن حملت{[26400]} تحرك في بطنها ولدها{[26401]} . وذلك كله بعد أن أهبطا{[26402]} إلى الأرض{[26403]} .

وقول آدم : هو صاحبنا ، يعني : هو الذي أخرجنا من الجنة .

قال السدي : لما حملت أتاها إبليس فخوفها أن يكون بهيمة ، فعند ذلك { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين }{[26404]} .

ومن قرأ { شركا }{[26405]} ، فقد منعه الأخفش ، وقال : كان يجب أن يقرأ على هذه القراءة : جعلا لغيره شِركا{[26406]} ، وهو إبليس ؛ لأن الأصل له ، والشرك لغيره ، فإنما جعلا لغيره الشرك{[26407]} .

والقراءة عند غيره جائزة ، ومعناها : جعلا له ذا شرك ، ثم حذف ، مثل : { وسئل القرية{[26408]} } ، فالشرك على هذا لإبليس ، وهو المضاف المحذوف{[26409]} .

و " الشرك " مصدر : شركته في الأمر{[26410]} .

ومن قرأ { شركاء{[26411]} } : جعله جمع شريك . وإنما جاءت بالجمع وهو واحد ، إذ{[26412]} المراد به : إبليس ومعه تباع ؛ لأن له جنودا وشياطين معه ، فإذا جعل هو شريك{[26413]} ، فحكمهم حكمه ، فخرج الخبر عن جميعهم .

/وقيل : إنما ذلك ؛ لأن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة ، إذا لم تقصد واحدا{[26414]} بعينه ولم تسمه ، نحو قوله : { الذين قال لهم الناس{[26415]} } وإنما هو واحد{[26416]} .

روى سمرة{[26417]} بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم{[26418]} ، أنه قال : " كانت حواء لا يعيش لها ولد ، فنذرت لئن عاش لها ولد لتسميه{[26419]} : " عبد الحارث " فعاش لها{[26420]} ولد ، فسمته " عبد الحارث " ، وإنما كان ذلك عن وحي الشيطان " {[26421]} .

وقال بكر بن عبد الله{[26422]} : سمى آدم ولده عبد الشيطان{[26423]} .

قال عكرمة : كان لا يعيش لهما ولد ، فأتاهما{[26424]} الشيطان وقال لهما : إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه : " عبد الحارث " . ففعلا{[26425]} ، فذلك قوله : { جعلا له شركا }{[26426]} .

قال ابن جبير : لما أثقلت حواء في أول ولد ولدته ، أتاها إبليس قبل أن تلد فقال : يا حواء ، ما هذا الذي في بطنك ؟ قالت : ما أدري{[26427]} ! قال : من أين يخرج ؟ من أنفك ، أو من عينك ، أو من أذنك ؟ قالت : لا أدري قال : أرأيت إن خرج سليما ، أتطيعني{[26428]} أنت فيما آمرك به ؟ قالت : نعم ! قال : سميه " عبد الحارث " ، فأتت آدم فأعلمته ، فقال لها : ذلك الشيطان فاحذريه ، فإنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة ! ثم أتاها إبليس ثانية فأعاد عليها ، فقالت : نعم فلما وضعته سمته : " عبد الحارث " {[26429]} .

قال السدي : لما ولدت غلاما أتاها إبليس فقال : سميه عبدي وإلا قتلته ! قال له آدم : قد أطعتك فأخرجتني من الجنة فأبى أن يطيعه ، فسمَّاه " عبد الرحمن " فسُلِّط عليه إبليس فقتله . فحملت بآخر{[26430]} فعاد بمثل ذلك ، فلم يفعل ( ذلك ){[26431]} آدم ، وسماه : " صالحا " فسلط عليه إبليس فقتله . فلما كان الثالثة قال لهما : فإذ{[26432]} غلبتموني فسموه{[26433]} : " عبد الحارث " وكان اسمه في الملائكة " الحارث " ، فسماه " عبد الحارث{[26434]} " .

وروي عن الحسن أنه قال : هذا كان في بعض الملل{[26435]} ولم يكن بآدم{[26436]} . يعني : " الشرك " ، إنما كان في بعض الأمم .

وقيل المعنى : جعل أولادهما{[26437]} لله شركاء ، يعني : اليهود والنصارى{[26438]} .

وروى قتادة عن الحسن : أنه قال : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله الأولاد فهوَّدوا ونصَّروا{[26439]} .

وروي عن عكرمة أنه قال : لم يخص بهذا آدم وحواء ؛ وإنما المراد بذلك الجنس{[26440]} .

كأنه قال : خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ، { وجعل منها زوجها } ، أي : من جنسها ، { فلما تغشاها } ، يعني : الجنس لا يخص به واحد دون آخر ، { دعوا الله ربهما } ، يراد به الجنسان الكافران . ثم يحمل قوله : { عما يشركون } على الجمع ؛ لأنهما جنسان{[26441]} .


[26396]:قال في تفسير المشكل من غريب القرآن 178،: "أي: ولدا سويا بشرا ولم تجعله بهيمة". ونص عليه ابن قتيبة قبله، في تفسير غريب القرآن 176. وهو قول ابن عباس في المحرر الوجيز 2/486، بلفظ: "قال ابن عباس، وهو الأظهر،: بشرا سويا سليما"، وساقه أبو حيان في البحر 4/437. قال الطبري في جامع البيان 13/308، معقبا على الآثار التي ساقها في تأويل قوله تعالى:{صُلْحا}: و"الصلاح"، قد يشمل معاني كثيرة: منها "الصلاح" في استواء الخلق، ومنها "الصلاح" في الدين، و"الصلاح" في العقل والتدبير. وإذا كان ذلك كذلك، ولا خبر عن الرسول يوجب الحجة بأن ذلك على بعض معاني "الصلاح" دون بعض، ولا فيه من العقل دليل، وجب أن يعم كما عمه الله، فيقال: إنهما قالا: "لئن-آتينا صلحا"، بجميع معاني "الصلاح". وهذا الكلام من روائع أبي جعفر في تفسيره، فتأمله! فإنه موصلك إلى فقه منهجه في تفسير كتاب الله، عز وجل.
[26397]:في "ج" و"ر": ءاخر.
[26398]:ما بين الهلالين ساقط من "ج" وفي "ر": صم صلى الله عليه وسلم.
[26399]:في "ج": سمته.
[26400]:في "ج": جعل، وفوقها صاد صغيرة، وفي الهامش: حملت.
[26401]:في "ر": فلدها.
[26402]:في الأصل: أهبط.
[26403]:جامع البيان 13/307، بتصرف.
[26404]:المصدر نفسه 307، 308، والدر المنثور 3/624، بتصرف.
[26405]:بكسر الشين وسكون الراء، على المصدر. وهي قراءة نافع، وأبي بكر بن عياش عن عاصم، كما في الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/485، وكتاب السبعة في القراءات 299، ومعاني القراءات 1/431، وإعراب القراءات السبع وعللها 1/216، وحجة القراءات لأبي زرعة 304، والتيسير 94. وينظر: المحرر الوجيز 2/487، والبحر المحيط 4/438.
[26406]:في الأصل: شركاء، وهو تحريف.
[26407]:معاني القرآن 1/344، بزيادة في لفظه. وأورده الزجاج في معاني القرآن 2/396، بلفظ: قال بعضهم...، والنحاس في إعراب القرآن 2/167، والقرطبي في تفسيره 7/215.
[26408]:يوسف آية 82، وتمامها: {التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون}.
[26409]:انظر: مزيد بيان في الكشف 1/486، ومشكل إعراب القرآن 1/307، وفيه: "...، فإن لم تقدر حذف مضاف في آخر الكلام قدرته في أول الكلام، لابد من أحد الوجهين في قراءة من قرأ {شركا}...، فإن لم تقدر حذفا انقلب المعنى وصار الذم مدحا، فافهمه". وجامع البيان 13/316، وزاد المسير 3/302، والدر المصون 3/383.
[26410]:في معاني القرآن للزجاج 2/396: "...، ومن قرأ {شركا}، فهو مصدر: شركت الرجل أشركه شركا".
[26411]:بضم الشين المعجمة والمد والنصب، وزان: "فعلاء". وهي قراءة ابن كثير وابن عامر، وأبي عمرو، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص. المصادر السالفة في تخريج قراءة {شركا} وهي القراءة المختارة عند مكي في الكشف 1/486:...؛ لأن الأكثر عليه، ولأنك لا تحتاج إلى تقدير حذف من الكلام"، والطبري في جامع البيان 13/316.
[26412]:في الأصل: وهو أحد إذا، وهو تحريف.
[26413]:كذا في المخطوطات الثلاث.
[26414]:في الأصل: إذ لم تقصدوا أحدا، وهو تحريف.
[26415]:آل عمران: 173، وتمامها: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
[26416]:جامع البيان 13/316، وتمامه: "فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الجماعة، إذ لم يقصد قصده. وذلك مستفيض في كلام العرب وأشعارها". والمراد بالواحد هاهنا، في قول بعض أهل التفسير: نعيم بن مسعود الأشجعي، كما في زاد المسير 1/504، والتسهيل لابن جزي 1/124، وفيه: "وإنما قيل له الناس وهو واحد؛ لأنه من جنس الناس، كقولك ركبت الخيل إذا ركبت فرسا". انظر: المدخل للحدادي 284، باب: ما يذكر بلفظ الجمع ويراد به الواحد، والبرهان 3/6، إطلاق الجمع وإرادة الواحد، وهو مندرج ضمن أساليب القرآن وفنونه البليغة. وفيه: "...؛ وإنما جاز إطلاق لفظ {الناس} على الواحد؛ لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله، حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل،...، {وإذ قلتم يا موسى لن نومن لك حتى نرى الله جهرة} البقرة: آية 54، والقائل ذلك رؤوسهم".
[26417]:هو: سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، يكنى أبا سليمان. توفي قبل سنة 60هـ. انظر الإصابة 3/150. ومصادر ترجمته هناك.
[26418]:في "ج": عليه السلام.
[26419]:في "ج": لتسمينه. وكذلك هو في جامع البيان الذي نقل عنه مكي.
[26420]:أحسبه في "ر": لهما.
[26421]:أخرجه الترمذي في سننه 5/267، وقال: هذا حديث حسن غريب، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 2/594، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.
[26422]:في "ر": عبد الله الأحمر، ولا أدري من أين أتى ناسخ المخطوطة بكلمة "الأحمر"! فهو بكر ابن عبد الله بن عمرو المزنى، أبو عبد الله البصري، ثقة، توفي سنة 106هـ، روى له الستة. انظر: تهذيب التهذيب 1/244.
[26423]:تفسير ابن أبي حاتم 5/1634.
[26424]:في الأصل: فاتههما، وهو تحريف ليس بشيء.
[26425]:في الأصل: ففلا ذلك، وهو تحريف.
[26426]:جامع البيان 13/311، بلفظ: ما أشرك آدم ولا حواء وكان لا يعيش...".
[26427]:قال القرطبي في تفسيره 7/311، "وهذا يقوي قراءة من قرأ: "فمرت به"، بالتخفيف".
[26428]:في "ج": أتطيعنني.
[26429]:جامع البيان 13/313، بتصرف يسير.
[26430]:في الأصل: فأخذ، وهو تحريف لا معنى له. وفي "ر"، بأخرى. وأثبت ما في "ج"، وجامع البيان الذي نقل عنه مكي.
[26431]:ما بين الهلالين ساقط من "ج".
[26432]:في الأصل: فإذا.
[26433]:في "ج": فسمياه.
[26434]:جامع البيان 13/313، 314، باختصار.
[26435]:في الأصل، و"ر"، المال، وهو تحريف.
[26436]:التفسير 1/396، وجامع البيان 13/314، وتفسير ابن كثير 2/274، والدر المنثور 3/625، وفتح القدير 2/316. دون قوله: "يعني: الشرك،...".
[26437]:في "ج": أولاده.
[26438]:هو قول ابن الأنباري في زاد المسير 3/304، وفيه إيضاح لما أجمل هاهنا، فراجعه.
[26439]:التفسير 1/396، وجامع البيان 13/315، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1634، وزاد المسير 3/303، وتفسير ابن كثير 2/275، وفيه: "...، وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية. ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عدل عنه هو ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وورعه. فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب، من آمن منهم، مثل: كعب، أو وهب بن منبه وغيرهما،....".
[26440]:تفسير القرطبي 7/215، بلفظ: "لم يخص بها آدم، ولكن جعلها عامة لجميع الخلق بعد آدم".
[26441]:انظر: إعراب القرآن للنحاس 2/167، وتفسير القرطبي 7/215، والبحر المحيط 4/436. قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن 259، "...؛ وإنما جعلا له الشرك بالتسمية لا بالنية والعقد، وانتهى الكلام في قصة آدم وحواء، ثم ذكر من أشرك بالعقد والنية من ذريتهما، فقال: {فتعالى الله عما يشركون}. ولو كان "آدم" و"حواء" لقال: عما يشركان، فهذا يدلك على العموم. وقال الطبري في جامع البيان 13/315 معقبا على الآثار التي أوردها في تفسير الآية: "وأولى القولين بالصواب، قول من قال: عني بقوله: {فلما آتاها صالحا جعلا له شركا} في الاسم، لا في العبادة؛ وأن المعني بذلك آدم وحواء، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك". وانتهى ابن كثير في تفسيره 2/275، بعد نقده العلمي للآثار الواردة في تفسير الآية، إلى مذهب الحسن البصري رحمه الله، في هذا؛ وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء؛ وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته، ولهذا قال الله تعالى: {فتعالى الله عما يشركون}. ثم قال: "فذكر آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس،....". ولمزيد من الإيضاح، انظر: تفسير الرازي 8/90، وما بعدها، وبدع التفاسير 55ن والإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير 209-215.