قوله تعالى : { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } قال الحسن و قتادة : أعطى كل شيء صلاحه ، وهداه لما يصلحه . وقال مجاهد : أعطى كل شيء صورته لم يجعل خلق الإنسان كخلق البهائم ، ولا خلق البهائم كخلق الإنسان ، ثم هداه إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح . وقال الضحاك : أعطى كل شيء خلقه يعني : اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للنظر والأذن للسمع . وقال سعيد بن جبير : أعطى كل شيء خلقه يعني : زوج للإنسان المرأة وللبعير الناقة والحمار الأتان والفرس الرمكة ثم هدى . أي : ألهمه كيف يأتي الذكر الأنثى .
{ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } أي : ربنا الذي خلق جميع المخلوقات ، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به ، الدال على حسن صنعه من خلقه ، من كبر الجسم وصغره وتوسطه ، وجميع صفاته ، { ثُمَّ هَدَى } كل مخلوق إلى ما خلقه له ، وهذه الهداية العامة{[516]} المشاهدة في جميع المخلوقات فكل مخلوق ، تجده يسعى لما خلق له من المنافع ، وفي دفع المضار عنه ، حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل ، ما يتمكن{[517]} به على ذلك .
وهذا كقوله تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } فالذي خلق المخلوقات ، وأعطاها خلقها الحسن ، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه ، وهداها لمصالحها ، هو الرب على الحقيقة ، فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودا ، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب ، فلو قدر أن الإنسان ، أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر ، كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك أن موسى قد رد على فرعون ردا يخرسه ويكبته فقال : { قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } .
وقوله { خَلْقَهُ } مصدر بمعنى اسم المفعول ، وهو المفعول الثانى لقوله { أعطى } والمفعول الأول قوله : { كُلَّ شَيءٍ } .
وللعلماء فى تفسير هذه الآية الكريمة اتجاهات يؤيد بعضها بعضا ، منها ما يراه بعضهم من أن معنى الآية الكريمة :
1 - قال موسى فى رده على فرعون : يا فرعون ربنا وربك هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذى أعطى كل مخلوق من مخلوقاته ، وكل شىء من الأشياء ، الصورة التى تلائمه ، والهيئة التى تتحقق معها منفعته ومصلحته ، ثم هداه إلى وظيفته التى خلقه من أجلها ، وأمده بالوسائل والملكات التى تحقق هذه الوظيفة .
وثم فى قوله { ثُمَّ هدى } للتراخى فى الرتبة ، إذ اهتداء المخلوق إلى وظيفته مرتبة تعلو كثيرا عن خلقه دون أن يفقه شيئا .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " أعطى كل شىء صورته وشكله الذى يطابق المنفعة المنوطة به ، كما أعطى العين الهيئة التى تطابق الإبصار ، والذن الشكل الذى يطابق المنفعة المنوط به ، كما أعطى العين الهيئة التى تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذى يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان ، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه .
{ ثُمَّ هدى } أى : عرفه كيف يرتفق بما أعطى ، وكيف يتوصل إليه ولله در هذا الجواب ، وما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ، ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق .
2 - ومنهم من يرى أن المعنى : قال موسى لفرعون : ربنا الذى أعطى كل شىء نظير خلقه فى الصورة والهيئة ، كالذكور من بنى آدم ، أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا ، وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها فى صورتها وهيئها فى صورتها وهيئها من الإناث أزواجا . . ثم هدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب ووسائل التناسل .
وقد صدر الإمام ابن جرير تفسيره للآية بهذا المعنى فقال ما ملخصه : وقوله : { قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } يعنى نظير خلقه فى الصورة والهيئة . . ثم هداهم للمأتى الذى منه النسل والنماء كيف يأتيه ، ولسائر منافعه من المطاعم والمشارب وغير ذلك .
3 - ويرى بعضهم أن : المعنى أعطى كل شىء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه .
4 - ومنهم من يرى أن قوله { خَلْقَهُ } هو المفعول الأول لأعطى ، وأن قوله { كُلَّ شَيءٍ } هو المفعول الثانى فيكون المعنى : قال موسى لفرعون : ربنا الذى أعطى الخلائق كل شىء يحتاجون إليه ، ثم هداهم إلى طريق استعماله والانتفاع به .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع لهذه المعانى جميعها لأنه - سبحانه - هو الذى أعطى خلقه كل شىء يحتاجون إليه فى معاشهم ، ثم هداهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم كما أعطى كل نوع من أنواع خلقه الصورة التى تناسبه ، والشكل الذى يتناسب مع جنسه { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ . . . }
{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } . قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول : خلق لكل شيء زَوْجة .
قال الضحاك عن ابن عباس : جعل الإنسان إنسانًا ، والحمار حمارًا ، والشاة شاةً .
وقال ليث بن أبي سُلَيم ، عن مجاهد : أعطى كل شيء صورته .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : سَوّى خلق كل دابة .
وقال سعيد بن جبير في قوله : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } قال : أعطى كل ذي خَلْق ما يصلحه من خَلْقه ، ولم يجعل للإنسان من خَلْق الدابة ، ولا للدابة من خلق الكلب ، ولا للكلب{[19391]} من خلق الشاة ، وأعطى كل{[19392]} شيء ما ينبغي له من النكاح ، وهيّأ كلّ شيء على ذلك ، ليس شيء منها يشبه شيئًا من أفعاله{[19393]} في الخَلْق والرزق والنكاح .
وقال بعض المفسرين : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } كقوله تعالى : { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 3 ] أي : قدر قدرًا ، وهدى الخلائق إليه ، أي : كَتَب الأعمال والآجال والأرزاق ، ثم الخلائق ماشون على ذلك ، لا يحيدون عنه ، ولا يقدر أحد على الخروج منه . يقول : ربنا الذي خلق [ الخلق ]{[19394]} وقدر القَدَر ، وجَبَل الخليقة على ما أراد .
{ قال ربنا الذي أعطى كل شيء } من الأنواع { خلقه } صورته وشكله الذي يطابق كماله الممكن له ، أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به ، فقدم المفعول الثاني لأنه المقصود بيانه . وقيل أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة زوجا . وقرئ { خلقه } صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ فيكون المفعول الثاني محذوفا أي أعطى كل مخلوق ما يصلحه . { ثم هدى } ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا ، وهو جواب في غاية البلاغة لاختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها ، ودلالته على أن الغني القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو الله تعالى وأن جميع ما عداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله ، ولذلك بهت الذي كفر وأفحم عن الدخل عليه فلم ير إلا صرف الكلام عنه .
تولى موسى الجواب لأنّه خصّ بالسؤال بسبب النّداء له دون غيره .
وأجاب موسى بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات جرياً على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس ، فإن فرعون من جملة الأشياء ، فهو داخل في عموم { كل شيء } .
و { كُلَّ شَيْءٍ } مفعول أول ل { أعطى } . و { خَلْقَهُ } مفعوله الثاني .
والخلق : مصدر بمعنى الإيجاد . وجيء بفعل الإعطاء للتنبيه على أنّ الخلق والتكوين نعمة ، فهو استدلال على الربوبية وتذكير بالنعمة معاً .
ويجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخصّ ، وهو الخَلق على شكل مخصوص ، فهو بمعنى الجَعْل ، أي الذي أعطى كل شيء من الموجودات شكله المختصّ به ، فكُونت بذلك الأجناسُ والأنواع والأصناف والأشخاص من آثار ذلك الخلق .
ويجوز أن يكون { كُلَّ شَيْءٍ } مفعولاً ثانياً ل { أعطى } ومفعوله الأول { خَلْقَهُ } ، أي أعطى خلقه ما يحتاجونه ، كقوله : { فأخرجنا به نبات كل شيء } [ الأنعام : 99 ] . فتركيب الجملة صالح للمعنيين .
والاستغراق المستفاد من ( كلّ ) عُرفي ، أي كل شيء من شأنه أن يعطاه أصنافُ الخلق ويناسب المعطي ، أو هو استغراق على قصد التوزيع بمقابلة الأشياء بالخلق ، مثل : ركب القوم دوابّهم .
والمعنى : تأمل وانظر هل أنتَ أعطيت الخَلق أوْ لاَ ؟ فلا شك أنه يعلم أنّه ما أعطى كلّ شيء خلقه ، فإذا تأمل علم أن الرب هو الذي أفاض الوجود والنّعم على الموجودات كلّها ، فآمن به بعنوان هذه الصفة وتلك المعرفة الموصّلة إلى الاعتقاد الحق .
و ( ثُم ) للترتيب بمعنييْه الزمني والرتبي ، أي خلق الأشياء ثمّ هدى إلى ما خلقهم لأجله ، وهداهم إلى الحق بعد أن خلقهم ، وأفاض عليهم النّعم ، على حد قوله تعالى : { ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين } [ البلد : 8 10 ] أي طريقي الخير والشرّ ، أي فرّقنا بينهما بالدلائل الواضحة .
قال الزمخشري في « الكشاف » : « ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالباً للحق » .