قوله تعالى : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } ، اختلفوا في الأرض المقدسة ، قال مجاهد : هي الطور وما حولها ، وقال الضحاك : إيليا وبيت المقدس ، وقال عكرمة والسدي : هي أريحاء ، وقال الكلبي : هي دمشق ، وفلسطين ، وبعض الأردن ، وقال قتادة : هي الشام كلها ، قال كعب : وجدت في كتاب الله المنزل ، أن الشام كنز الله من أرضه ، وبها أكثر عباده .
قوله تعالى : { كتب الله لكم } يعني : كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم ، وقال ابن إسحاق : وهب الله لكم ، وقيل : جعلها لكم ، وقال السدي : أمركم الله بدخولها ، وقال قتادة : أمروا بها كما أمر بالصلاة ، أي : فرض عليكم .
قوله تعالى : { ولا ترتدوا على أدباركم } . أعقابكم ، بخلاف أمر الله .
قوله تعالى : { فتنقلبوا خاسرين } ، قال الكلبي : صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان ، فقيل له : انظر ، فما أدركه بصرك فهو مقدس ، وه ميراث لذريتك .
فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية ، الداعي ذلك لإيمانهم وثباته ، وثباتهم على الجهاد ، وإقدامهم عليه ، ولهذا قال : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ }
أي : المطهرة { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فأخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم ، إن كانوا مؤمنين مصدقين بخبر الله ، وأنه قد كتب الله لهم دخولها ، وانتصارهم على عدوهم . { وَلَا تَرْتَدُّوا } أي : ترجعوا { عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } قد خسرتم دنياكم بما فاتكم من النصر على الأعداء وفتح بلادكم . وآخرتكم بما فاتكم من الثواب ، وما استحققتم -بمعصيتكم- من العقاب ، فقالوا قولا يدل على ضعف قلوبهم ، وخور نفوسهم ، وعدم اهتمامهم بأمر الله ورسوله .
{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } .
ومعنى المقدسة : المطهرة المباركة بسبب أنها كانت موطنا لكثير من الأنبياء .
والمراد بها . بيت المقدس وقيل المراد بها : اريحاء وقيل : الطور وما حوله .
قال ابن جرير : وهي لا تخرج عن أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر ، لإجماع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك .
ومعنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } : قدر لكم سكناها ، ووعدكم إياها متى آمنتم به وأطعتم أنبياءه ، أو معناه : فرض عليكم دخولها وأمركم به كما أمركم بأداء الصلاة والزكاة - وسنفصل القول في هذه المسألة بعد تفسيرنا للآيات - .
ومفعول ( كتب ) محذوف . أي كتب لكم أن تدخلوها وفرض عليكم دخولها لإِنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وجنده .
وقد تعدى فعل ( كتب ) هنا باللام دون على ، للإِشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لمنفعتهم ولعزتهم ورفعة شأنهم .
وفي تكرير النداء من موسى لهم بقوله : { يَاقَوْمِ } مبالغة في حثهم على الامتثال لما يأمرهم به ، وتنبيه إلى خطر ما يدعوهم إليه وعظم شأنه .
وقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فيه حض شديد لهم على الاستجابة لأمره ، وإغراء لهم بالنصر والفوز ، لأن الذي كتب لهم أن يدخلوها متى آمنوا وأطاعوا هو الله الذي لا معقب لحكمه .
قال الإِمام الرازي : في قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فائدة عظيمة . وهي أن القوم كانوا جبارين إلا أن الله - تعالى - لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم ، فإن كان مؤمنين مقرين بصدق موسى - عليه السلام - علموا قطعا أن الله ينصرهم عليهم ، فلا بد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع " .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } تحذير لهم من الجبن والإِحجام ، بعد ترغيبهم الشديد في الشجاعة والإِقدام .
وقوله ( ترتدوا ) من الارتداد وهو الرجوع إلى الخلف .
و ( الأدبار ) جمع دبر وهو الظهر .
وهذا التعبير استعارة تمثيلية فيها تشبيه حال من يرجع عن الجهاد بعد أن توافرت أسبابه ، يحال من يتراجع سائرا بظهره إلى الوراء ، بدل أن يسير بوجهه إلى الأمام . وهذا التعبير يصور قبح الجبن والتخاذل حسا ومعنى .
وقوله ( فتنقلبوا ) من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشيء وهو مجزوم عطفا على فعل النهي وهو { وَلاَ تَرْتَدُّوا } .
والمعنى : أمضوا أيها القوم لأمر الله ، وسيروا خلفي لقتال الأعداء ودخول الأرض المقدسة التي أمركم - سبحانه - بدخولها ، ولا ترجعوا القهقري منصرفين عن القتال خوفا من أعدائكم ، ومبتعدين عن طاعتي وأمري ، فإن ذلك يؤدي بكم إلى الخسران في الدنيا والآخرة ، وإلى الحرمان من خيرات الأرض التي أوجب الله عليكم دخولها .
قال ابن جرير : فإن قال قائل : وما كان وجه قيل موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له ؟ قيل : إن الله - تعالى - كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به ، وفرض عليهم دخولها ، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم فرض عليهم من وجهين :
أحدهما : تضييع فرض الجهاد الذي كان الله فرضه عليهم .
والثاني : مخالفتهم أمر الله في تركهم دخول الأرض المقدسة .
هذا ، وقد جاءت هذه الجملة الكريمة ، وهي قوله - تعالى - : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } تحمل طابع التحذير الشديد ، وتنذرهم بالخسران المبين إذا لم يستجيبوا لأمر الله بعد أن ساق سلهم موسى ألوانا من المشجعات والمرغبات في الجهاد ، وذلك لأنه - عليه السلام - كان متوقعاً منهم الإِحجام عن القتال ، بعد أن جرب عنادهم وعصيانهم ونكوصهم على أعقابهم في مواطن كثيرة ، فهذه التجارب جعلته وهو يأمرهم بدخول الأرض المقدسة يذكر لهم أكبر النعم ويسوق لهم أكرم الذكريات وأقوى الضمانات وأشد التحذيرات لكي يقبلوا على الجهاد بعزيمة صادقة .
ثم قال تعالى مخبرًا عن تحريض ، موسى ، عليه السلام ، لبني{[9508]} إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس ، الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب ، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ، ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى [ عليه السلام ]{[9509]} فوجدوا فيها قوما من العمالقة الجبارين ، قد استحوذوا عليها وتملكوها ، فأمرهم رسول الله موسى ، عليه السلام ، بالدخول إليها ، وبقتال أعدائهم ، وبَشَّرهم بالنصرة والظفر عليهم ، فَنَكَلُوا وعَصوْا وخالفوا أمره ، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين ، لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد ، مُدّة أربعين سنة ، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله [ تعالى ]{[9510]} فقال تعالى مخبرا عن موسى أنه قال : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } أي : المطهرة .
قال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } قال : هي الطور وما حوله . وكذا قال مجاهد وغير واحد .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي سعيد البقال ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : هي أريحا . وكذا ذكر غير واحد من المفسرين .
وفي هذا نظر ؛ لأن أريحا ليست هي المقصود{[9511]} بالفتح ، ولا كانت في طريقهم إلى بيت المقدس ، وقد قدموا من بلاد مصر ، حين أهلك الله عدوهم فرعون ، [ اللهم ]{[9512]} إلا أن يكون المراد بأريحا أرض بيت المقدس ، كما قاله - السدي فيما رواه ابن جرير عنه - لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الغَوْر شرقي بيت المقدس .
وقوله تعالى : { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي : التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل : أنه وراثة{[9513]} من آمن منكم . { وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } أي : ولا تنكلوا عن الجهاد { فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ }{[9514]} أي : اعتذروا بأن في هذه البلدة - التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها - قوما جبارين ، أي : ذوي خلَقٍ هائلة ، وقوى شديدة ، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مُصَاولتهم ، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها دخلناها{[9515]} وإلا فلا طاقة لنا بهم .
وقد قال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار ، حدثنا سفيان قال : قال أبو سعيد{[9516]} قال عِكْرَمَة ، عن ابن عباس قال : أمرَ موسى أن يدخل مدينة الجبارين . قال : فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة - وهي أريحا - فبعث إليهم اثني عشر عينًا ، من كل سبط منهم عين ، ليأتوه بخبر القوم . قال : فدخلوا المدينة فرأوا أمرًا عظيما من هيئتهم وجُثَثهم{[9517]} وعِظَمِهم ، فدخلوا حائطا لبعضهم ، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه ، فجعل يجتني الثمار . وينظر{[9518]} إلى آثارهم ، فتتبعهم{[9519]} فكلما{[9520]} أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة ، حتى التقت الاثني عشر كلهم ، فجعلهم في كمه مع الفاكهة ، وذهب{[9521]} إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال لهم الملك : قد رأيتم شأننا وأمرنا ، فاذهبوا فأخبروا صاحبكم . قال : فرجعوا إلى موسى ، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم .
وفي هذا الإسناد نظر . {[9522]}
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما نزل موسى وقومه ، بعث منهم اثني عشر رجلا{[9523]} - وهم النقباء الذين ذكر{[9524]} الله ، فبعثهم ليأتوه بخبرهم ، فساروا ، فلقيهم رجل من الجبارين ، فجعلهم في كسائه ، فحملهم حتى أتى بهم المدينة ، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه ، فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : نحن قوم موسى ، بعثنا نأتيه{[9525]} بخبركم . فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل ، فقالوا لهم : اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم : اقدروا قَدْر فاكهتهم{[9526]} فلما أتوهم قالوا : يا موسى ، { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون }
رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا يحيى بن أيوب عن يزيد بن الهاد ، حدثني يحيى بن عبد الرحمن قال : رأيت أنس بن مالك أخذ عصا ، فذرع{[9527]} فيها بشيء ، لا أدري كم ذرع ، ثم قاس بها في الأرض خمسين أو خمسا{[9528]} وخمسين ، ثم قال : هكذا طول العماليق .
وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارًا من وضع بني إسرائيل ، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين ، وأنه كان فيهم عوج بن عنق ، بنت آدم ، عليه السلام ، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع ، تحرير الحساب ! وهذا شيء يستحي من ذكره . ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيح{[9529]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله [ تعالى ]{[9530]} خلق آدم وطوله ستون ذراعًا ، ثم لم يزل الخلق ينقص{[9531]} حتى الآن " . {[9532]}
ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا ، وأنه كان ولد زِنْية ، وأنه امتنع من ركوب السفينة ، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته{[9533]} وهذا كذب وافتراء ، فإن الله ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين ، فقال{[9534]} { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [ نوح : 26 ] وقال تعالى : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ }{[9535]} [ الشعراء : 119 - 120 ] وقال تعالى : [ قَال ]{[9536]} { لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ } [ هود : 43 ] وإذا كان ابن نوح الكافر غرق ، فكيف يبقى عوج بن عنق ، وهو كافر وولد زنية ؟ ! هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع . ثم في وجود رجل يقال له : " عوج بن عنق " نظر ، والله أعلم .
{ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة } أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومسكن المؤمنين . وقيل : الطور وما حوله . وقيل : دمشق وفلسطين وبعض الأردن . وقيل الشام . { التي كتب الله لكم } قسمها لكم أو كتب في اللوح أنها تكون مسكنا لكم ، ولكن إن آمنتم وأطعتم لقوله لهم بعدما عصوا { فإنها محرمة عليهم } . { ولا ترتدوا على أدباركم } ولا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة قيل لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا وقالوا : ليتنا متنا بمصر تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر ، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق على الله سبحانه وتعالى . { فتنقلبوا خاسرين } ثواب الدارين ، ويجوز في فتنقلبوا الجزم على العطف والنصب على الجواب .
و { المقدسة } معناه المطهرة ، وقال مجاهد : المباركة .
قال القاضي أبو محمد : والبركة تطهير من القحوط والجوع ونحوه . واختلف الناس في تعيينها ، فقال ابن عباس ومجاهد هي الطور وما حوله ، وقال قتادة : هي الشام ، وقال ابن زيد : هي أريحاء وقاله السدي وابن عباس أيضاً ، وقال قوم : هي الغوطة وفلسطين وبعض الأردن ، قال الطبري : ولا يختلف أنها بين الفرات وعريش مصر .
قال القاضي أبو محمد : وتظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين ، وقوله { التي كتب الله لكم } معناه التي «كتب الله » في قضائه وقدره أنها لكم ترثونها وتسكنونها مالكين لها ، ولكن فتنتكم في دخلولها بفرض قتال من فيها عليكم تمحيصاً وتجربة ، ثم حذرهم موسى عليه السلام الارتداد على الأدبار ، وذلك الرجوع القهقرى ، ويحتمل أن يكون تولية الدبر والرجوع في الطريق الذي جيء منه ، والخاسر : الذي قد نقص حظه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فقال موسى: {يا قوم}: بني إسرائيل، {ادخلوا الأرض المقدسة}: المطهرة {التي كتب الله لكم}، يعني التي أمركم الله عز وجل أن تدخلوها وهي أريحا أرض الأردن وفلسطين، وهما من الأرض المقدسة، {ولا ترتدوا على أدباركم}: ولا ترجعوا وراءكم بترككم الدخول، {فتنقلبوا خاسرين}: فترجعوا خاسرين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قول موسى صلى الله عليه وسلم لقومه من بني إسرائيل، وأمره إياهم عن أمر الله إياه، يأمرهم بدخول الأرض المقدسة.
ثم اختلف أهل التأويل في الأرض التي عناها بالأرض المقدسة؛ فقال بعضهم: عنى بذلك: الطور وما حوله.
وقيل: إن الأرض المقدسة: دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ. وعنى بقوله "المُقَدّسَة": المطهرة المباركة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: هي الأرض المقدسة، كما قال نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم. لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تدرك حقيقة صحته إلاّ بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به، غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي بين الفرات وعريش مصر لإجماع جميع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك.
"التي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ": التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن، ومنازل دون الجبابرة التي فيها.
فإن قال قائل: فكيف قال: التي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ، وقد علمت أنهم لم يدخلوها بقوله: "فإنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ"؟ فكيف يكون مثبتا في اللوح المحفوظ أنها مساكن لهم، ومحرّما عليهم سكناها؟ قيل: إنها كتبت لبني إسرائيل دارا ومساكن، وقد سكنوها ونزلوها، وصارت لهم كما قال الله جلّ وعزّ. وإنما قال لهم موسى: "ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدّسَة التي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ "يعني بها: كتبها الله لبني إسرائيل وكان الذين أمرهم موسى بدخولها من بني إسرائيل ولم يعن صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ذكره كتبها للذين أمرهم بدخولها بأعيانهم، ولو قال قائل: قد كانت مكتوبة لبعضهم، ولخاصّ منهم، فأخرج الكلام على العموم والمراد منه الخاص، إذ كان يُوشَع وكالب قد دخلا، وكانا ممن خوطب بهذا القول، كان أيضا وجها صحيحا.
عن محمد بن إسحاق: التي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ: التي وهب الله لكم
وكان السديّ يقول: معنى «كتب» في هذا الموضع بمعنى: أمر.
"وَلا تَرْتَدّوا على أدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ": وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قيل موسى عليه السلام لقومه من بني إسرائيل، إذ أمرهم عن أمر الله عزّ ذكره إياه بدخول الأرض المقدسة، أنه قال لهم: امضوا أيها القوم لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض المقدسة، وَلا تَرْتَدّوا يقول: لا ترجعوا القهقرى مرتدين على أدْبَارِكُمْ يعني: إلى ورائكم، ولكن امضوا قدما لأمر الله الذي أمركم به من الدخول على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في أرضهم، وأن الله عزّ ذكره قد كتبها لكم مسكنا وقرارا.
ويعني بقوله: "فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ": أنكم تنصرفوا خائبين هكذا.
فإن قال قائل: وما كان وجه قيل موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة لا ترتدّوا على أدْبارِكُمْ فتنقلبوا خاسرين؟ أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له؟ قيل: إن الله عزّ ذكره كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم. إذا فرض الله عليهم من وجهين: أحدهما تضييع فرض الجهاد الذي كان الله فرضه عليهم. والثاني: خلافهم أمر الله في تركهم دخول الأرض، وقولهم لنبيهم موسى صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم: "ادخلوا الأرض المقدسة": "إنّا لَنْ نَدْخُلَها حتى يَخْرُجُوا مِنْها فإنْ يَخْرُجُوا مِنْها فإنّا دَاخِلُونَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {ولا ترتدوا على أدباركم} هذا، والله أعلم، كناية عن الرجوع عن الدين وهو كقوله تعالى: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} [آل عمران: 144] وإنما صار ذلك كناية عن الرجوع عن الدين، والله أعلم، لما ذكرنا في أحد التأويلين أنه كتب عليهم قتال أهل تلك الأرض، فتركوا أمر الله وطاعته. ويحتمل أن وعد الله لهم فتح تلك الأرض، فلم يصدقوا رسوله في ما أخبر عن الله من الفتح لهم، فكفروا بذلك.
{فتنقلبوا خاسرين} يحتمل أن يكون ذلك لهم في الآخرة، ويحتمل في الدنيا منهزمين. وقوله تعالى: {ولا ترتدوا على أدباركم} لا ترجعوا وراءكم، ولكن ادخلوها.
والمقدسة هي المطهرة، لأن التقديس التطهير، وإنما سمّاها الله المقدسةَ لأنها طَهُرَتْ من كثير من الشرك وجُعلت مسكناً وقراراً للأنبياء والمؤمنين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
من الفرق بين هذه الأمة وبين بني إسرائيل أنه أباح لهم دخولَ الأرض المقدسة على الخصوص فقال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} ثم إنهم لم يدخلوها إلا بعد مدة، وبعد جهد وشدة، وقال في شأن هذه الأمة {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] فأولئك كتب لهم دخول الأرض كتابةَ تكليف ثم قصروا، وهذه الأمة كتب لهم جميع الأرض على جهة التشريف، ثم وصلوا إلى ما كتب لهم وما قصروا. وقال: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} وقال لهذه الأمة: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك: 15] فهؤلاء ذلَّل لهم وسهَّل عليهم، وأولئك صعَّب عليهم الوصول إلى ما أمرهم فيما أنزل الله عليهم.
في قوله {كتب الله لكم} فائدة عظيمة، وهي أن القوم وإن كانوا جبارين إلا أن الله تعالى لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم، فإن كانوا مؤمنين مقرين بصدق موسى عليه السلام علموا قطعا أن الله ينصرهم عليهم ويسلطهم عليهم فلابد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع، فهذه هي الفائدة من هذه الكلمة. ثم قال: {ولا ترتدوا على أدباركم} وفيه وجهان: الأول: لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوة موسى عليه السلام، وذلك لأنه عليه السلام لما أخبر أن الله تعالى جعل تلك الأرض لهم كان هذا وعدا بأن الله تعالى ينصرهم عليهم، فلو لم يقطعوا بهذه النصرة صاروا شاكين في صدق موسى عليه السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوة. والوجه الثاني: المراد لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى الأرض التي خرجتم عنها...
وقوله {فتنقلبوا خاسرين} فيه وجوه: أحدها: خاسرين في الآخرة فإنه يفوتكم الثواب ويلحقكم العقاب، وثانيها: ترجعون إلى الذل، وثالثها: تموتون في التيه ولا تصلون إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد جربهم في مواطن كثيرة طوال الطريق الطويل.. ثم ها هو ذا معهم على أبواب الأرض المقدسة. أرض الميعاد التي من أجلها خرجوا. الأرض التي وعدهم الله أن يكونوا فيها ملوكا، وأن يبعث من بينهم الأنبياء فيها ليظلوا في رعاية الله وقيادته.. لقد جربهم فحق له أن يشفق، وهو يدعوهم دعوته الأخيرة، فيحشد فيها ألمع الذكريات، وأكبر البشريات، وأضخم المشجعات وأشد التحذيرات: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين).. نعمة الله. ووعده الواقع من أن يجعل فيهم أنبياء ويجعلهم ملوكا. وإيتاءه لهم بهذا وذلك ما لم يؤت أحدا من العالمين حتى ذلك التاريخ. والأرض المقدسة التي هم مقدمون عليها مكتوبة لهم بوعد الله. فهي إذن يقين.. وقد رأوا من قبل كيف صدقهم الله وعده. وهذا وعده الذي هم عليه قادمون.. والارتداد على الأدبار هو الخسران المبين..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة} هو الغرض من الخطاب، فهو كالمقصد بعد المقدّمة، ولذلك كرّر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء ب {يَا قَوم} لزيادة استحضار أذهانهم. والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه، أي تهيَّأوا للدخول. والأرض المقدّسة بمعنى المطهّرة المباركة، أي الّتي بارك الله فيها، أو لأنّها قُدّست بدفن إبراهيم عليه السلام في أوّل قرية من قراها وهي حَبْرون...
وقوله: {ولا ترتَدّوا على أدباركم} تحذير ممّا يوجب الانهزام، لأنّ ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال. والارتداد افتعال من الردّ، يقال: ردّه فارتدّ، والردّ: إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي سار منه. والأدبار: جمع دُبُر، وهو الظهر. والارتداد: الرجوع، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار، أي الوراء لأنّهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره، كما يقُولون: نكص على عقبيه، وركبوا ظهورهم، وارتدّوا على أدبارهم، وعلى أعقابهم، فعدّي ب {على} الدالّة على الاستعلاء، أي استعلاء طريق السير، نزّلت الأدبار الّتي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الّذي يسار عليه. والانقلاب: الرجوع، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل} [آل عمران: 174]. والمراد به هنا مطلق المصير.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كان تكرار النداء من موسى عليه السلام لعظم التنبيه، وخطر ما يدعوهم إليه، وعظم شأنه وكان تكرار كلمة "يا قوم "للإشارة إلى أن فيما يطلبه منهم عزهم جميعا ورفعة أقدارهم،...
وقد قرر الله سبحانه أنه كتب لهم أن يدخلوا بقوله تعالى: {كتب الله لكم} وهنا نجد المفعول غير مذكور، إلا أن المحذوف قد وجد ما يدل عليه، والمعنى كتب لكم أن تدخلوها، أي قدر لكم أن تدخلوها، وفرض عليكم دخولها لإنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وأعوانه، وقد تعدى فعل كتب باللام ولم يتعد بعلى للإشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لأجلهم ولحفظهم وللإشارة إلى أنه واقع لمنع ضياعهم. ولا يصح أن يقدر المفعول ضميرا كما نهج بعض المفسرين فيكون تقدير القول "كتبها لكم"، لأن مؤدى ذلك أن تكون لهم دائما مع أن النص الكريم لا يقتضيه ولا يصرح به، إذ الذي يصرح به أنه سبحانه قدر لهم أن يدخلوها، لا أن يكون قد كتبها وسجلها لهم...
ولقد كان رجوع بني إسرائيل إذا لم يعملوا على دخول الأرض المقدسة أن يعودوا إلى حكم فرعون، ويخسروا ما كسبوا من عزة وكرامة وحرية ويذهب عنهم، فإن البقاء على العزة يحتاج إلى مشقة الحصول عليها، ولئن ارتدوا عن العزة بعد نيلها فإنهم الخاسرون إذ لا يرضى بالعذاب الهون إلا الأخسرون.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} وكانت القافلة تسير إلى بيت المقدس، ولاحت لهم الأرض المقدسة من بعيد، فهي الهدف الَّذي عاشوا له من خلال موسى، فطلب منهم أن يدخلوها ليستقروا وليعيشوا الحكم العادل على أساس النبوّة، ولكنَّهم رفضوا ذلك العرض، لأنَّ الدخول إليها سوف يكلفهم صراعاً وقتالاً وتضحيات لا يريدونها.