اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ} (21)

وقرأ ابن{[11334]} مُحَيْصِن هنا وفي جميع القُرْآن " يَا قَوْمُ " مضموم الميم .

وتروى قراءة{[11335]} عن ابن كثيرٍ [ ووَجْهُهَا أنَّها ]{[11336]} لُغَةٌ في المُنَادى المضاف إلى يَاءِ المُتَكَلِّم كَقِرَاءة { [ قل ]{[11337]} رَبُّ احْكُم بِالحَقِّ } [ الأنبياء : 112 ] ، وقد تقدَّمَت هذه [ المسألة ]{[11338]} .

وقرأ ابن{[11339]} السمَيْفع : { يَا قَوْمِيَ ادْخُلُوا } بفتح الياء ، ورُوِيَ أنَّ إبراهيم - عليه السلام - لما صعد [ جَبَل لبنان ]{[11340]} ، فقال اللَّهُ تعالى له : " انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس ، وهو ميراث لذريتك " {[11341]} .

والأرضُ المقدَّسَةُ هي الأرْضُ المطهَّرَةُ من الآفات ؛ لأنَّ التَّقْدِيس هُو التَّطْهِيرُ ، وقال المُفَسِّرُون{[11342]} طهِّرَت من الشِّرك ، وجُعِلَت مَسْكَناً وقَرَاراً للأنْبِيَاء ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ تلك الأرْض لما أمَرهُمْ مُوسى بِدُخُولها ما كانَتْ مقدَّسة عن الشِّرْك ، وما كَانَتْ مَقرًّا للأنْبيَاء ، وقد يُجَابُ عَنْهُ بأنَّها كَانَتْ كذلك فيما قَبْل .

واختلفُوا في تلك الأرْض ، فقال عِكْرِمَةُ ، والسديُّ ، وابنُ زَيْد : هي أريحا{[11343]} .

وقال الكَلْبِيُّ : هي دمشق وفلسْطِين وبعض الأرْدُن{[11344]} ، وقال الضَّحَّاك : هي إيليَا وبَيْتُ المَقْدِسِ ، وقال مُجَاهِد : هي الطُّور وما حَوْلَه{[11345]} . وقال قتادةُ : هي الشَّامُ كُلُّها{[11346]} . وقال كَعْبٌ : وجَدْتُ في كتاب اللَّه المُنَزَّل [ أنَّ الشَّام ]{[11347]} كَنْزُ الله من أرْضِه ، وبِها كَثْرَةٌ من عِبَادِه .

وقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني : في اللَّوْح المَحْفُوظِ أنَّها لكم مَسَاكِن .

وقال ابن إسحاق{[11348]} : وهب اللَّهُ لكم ، وقيل : جعلها لكم [ قال السديّ : أمَرَكُم الله بِدُخُولها ]{[11349]} .

فإن قيل : لم قال { كتبَ اللَّه لَكُم } ، ثم قال { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ }{[11350]} [ المائدة : 26 ] .

فالجوابُ : قال ابنُ عبَّاس : كانت هِبَةً ثُمَّ حرَّمها عليهم بشُؤم تَمَرُّدِهِم وعِصْيَانِهم{[11351]} ، وقيل : اللَّفْظ وإن كان عامًّا لكنَّ المرادُ به الخُصُوصُ ، فكَأَنَّها كُتِبَتْ لِبَعْضِهِم ، وَحُرِّمَتْ على بَعْضِهِم .

وقيل : إنَّ الوَعْد بقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } مشروطٌ بقَيْد الطَّاعة ، فلما لم يُوجَد الشَّرْط لم يُوجَد المَشْرُوط .

وقيل : إنَّها مُحَرَّمةٌ عليهم أرْبَعِين سَنَة ، فلما مَضَى الأرْبَعُون حصل ما كتَبَ .

وفي قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فَائِدَة ، وهي{[11352]} أنَّ القوم وإن كانُوا جبَّارِين ، إلاَّ أنَّ الله تعالى لمَّا وعد هؤلاءِ الضُّعَفَاء بأنَّ تلك الأرْضَ لهم ، فإن كانوا مُؤمنين مُقَرَّبين بصدْق الأنْبِيَاء ، عَلِمُوا قَطْعاً أنَّ اللَّه يَنْصُرهم عليهم ، فلا بُدَّ وأن يَعْزِمُوا على قتالهم من غير خَوْفٍ ولا جُبْن .

قوله : { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } فالجار والمجرور [ حال من فاعل " تَرتَدوا " أي : لا ترتدوا مُنقلبين ، ويجُوزُ أن ]{[11353]} يتعلَّق بِنَفْسِ الفِعْل قَبْلَهُ .

وقوله : " فَتَنْقَلِبُوا " فيه وجهان :

أظهرُهُمَا : أنَّهُ مَجْزُومٌ عَطْفاً على فِعْل النَّهْي .

والثاني : أنَّهُ منصُوبٌ بإضْمَار " أنْ " بعد الفَاءِ في جواب النَّهي .

و " خَاسِرِين " حالٌ .

وفي المَعْنَى وجهان :

أحدهما : لا يَرْجِعُوا عن الدِّين الصَّحيح في نُبُوَّة مُوسَى ؛ لأنَّهُ - عليه السلام - لما أخْبَرَ اللَّه تعالى جعل تِلْكَ الأرْضَ لَهُم ، [ أو ]{[11354]} كان هذا وعْداً بأنَّ الله يَنْصُرهم{[11355]} عليهم ، فلو لَمْ يقْطعُوا بِهَذِه النُّصْرَة ، صارُوا شاكِّين في صِدْق مُوسى - عليه الصلاة والسلام - فيصيروا{[11356]} كافرين بالنُّبُوَّة والإلهِيَّة .

والثاني : لا ترجِعُوا عن الأرْضِ التي أمرتُم بِدُخُولِها إلى الأرْض الَّتِي خَرَجْتُم عنها ، يُرْوَى أنَّهُم عَزَمُوا على الرُّجُوعِ إلى مِصْر .

وقوله : " فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين " أي : في الآخِرَة يَفوتُكُم الثَّواب ويَلْحَقُكُم العِقَابُ .

وقيل : تَرْجِعُون إلى الذِّلَّة ، وقيل : تُمَزَّقُون{[11357]} في التِّيه ، ولا تَصِلُون{[11358]} إلى شَيْءٍ من مَطَالبِ الدُّنْيَا ومَنَافِع الآخِرَة .


[11334]:وروي ذلك عن ابن كثير. ينظر: المحرر الوجيز 2/173، والبحر المحيط 3/469، والدر المصون 2/506.
[11335]:في أ: وترد.
[11336]:في أ: ووجها أنه.
[11337]:سقط في أ.
[11338]:سقط في أ.
[11339]:ينظر: الدر المصون 2/506.
[11340]:في ب: الجبل ليناد.
[11341]:ينظر: الرازي 11/156.
[11342]:ينظر: تفسير الرازي 11/156.
[11343]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/514) عن ابن عباس والسدي وابن زيد.
[11344]:ذكره الطبري في "تفسيره" (4/513) عن الكلبي.
[11345]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/513) عن ابن عباس ومجاهد.
[11346]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/513) وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/478) عن قتادة وعزاه لعبد بن حميد وعبد الرزاق.
[11347]:سقط في أ.
[11348]:ينظر: تفسير البغوي 2/24.
[11349]:سقط في أ.
[11350]:انظر هذه الآثار في "التفسير الكبير" للرازي (11/156).
[11351]:ينظر: تفسير الرازي 11/156.
[11352]:في ب: وهو.
[11353]:سقط في أ.
[11354]:سقط في أ.
[11355]:في أ: ينصركم.
[11356]:في ب: فصيروا.
[11357]:في ب: تموتون.
[11358]:في ب: تقبلون.