تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فقال موسى: {يا قوم}: بني إسرائيل، {ادخلوا الأرض المقدسة}: المطهرة {التي كتب الله لكم}، يعني التي أمركم الله عز وجل أن تدخلوها وهي أريحا أرض الأردن وفلسطين، وهما من الأرض المقدسة، {ولا ترتدوا على أدباركم}: ولا ترجعوا وراءكم بترككم الدخول، {فتنقلبوا خاسرين}: فترجعوا خاسرين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قول موسى صلى الله عليه وسلم لقومه من بني إسرائيل، وأمره إياهم عن أمر الله إياه، يأمرهم بدخول الأرض المقدسة.
ثم اختلف أهل التأويل في الأرض التي عناها بالأرض المقدسة؛ فقال بعضهم: عنى بذلك: الطور وما حوله.
وقيل: إن الأرض المقدسة: دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ. وعنى بقوله "المُقَدّسَة": المطهرة المباركة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: هي الأرض المقدسة، كما قال نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم. لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تدرك حقيقة صحته إلاّ بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به، غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي بين الفرات وعريش مصر لإجماع جميع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك.
"التي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ": التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن، ومنازل دون الجبابرة التي فيها.
فإن قال قائل: فكيف قال: التي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ، وقد علمت أنهم لم يدخلوها بقوله: "فإنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ"؟ فكيف يكون مثبتا في اللوح المحفوظ أنها مساكن لهم، ومحرّما عليهم سكناها؟ قيل: إنها كتبت لبني إسرائيل دارا ومساكن، وقد سكنوها ونزلوها، وصارت لهم كما قال الله جلّ وعزّ. وإنما قال لهم موسى: "ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدّسَة التي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ "يعني بها: كتبها الله لبني إسرائيل وكان الذين أمرهم موسى بدخولها من بني إسرائيل ولم يعن صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ذكره كتبها للذين أمرهم بدخولها بأعيانهم، ولو قال قائل: قد كانت مكتوبة لبعضهم، ولخاصّ منهم، فأخرج الكلام على العموم والمراد منه الخاص، إذ كان يُوشَع وكالب قد دخلا، وكانا ممن خوطب بهذا القول، كان أيضا وجها صحيحا.
عن محمد بن إسحاق: التي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ: التي وهب الله لكم
وكان السديّ يقول: معنى «كتب» في هذا الموضع بمعنى: أمر.
"وَلا تَرْتَدّوا على أدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ": وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قيل موسى عليه السلام لقومه من بني إسرائيل، إذ أمرهم عن أمر الله عزّ ذكره إياه بدخول الأرض المقدسة، أنه قال لهم: امضوا أيها القوم لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض المقدسة، وَلا تَرْتَدّوا يقول: لا ترجعوا القهقرى مرتدين على أدْبَارِكُمْ يعني: إلى ورائكم، ولكن امضوا قدما لأمر الله الذي أمركم به من الدخول على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في أرضهم، وأن الله عزّ ذكره قد كتبها لكم مسكنا وقرارا.
ويعني بقوله: "فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ": أنكم تنصرفوا خائبين هكذا.
فإن قال قائل: وما كان وجه قيل موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة لا ترتدّوا على أدْبارِكُمْ فتنقلبوا خاسرين؟ أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له؟ قيل: إن الله عزّ ذكره كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم. إذا فرض الله عليهم من وجهين: أحدهما تضييع فرض الجهاد الذي كان الله فرضه عليهم. والثاني: خلافهم أمر الله في تركهم دخول الأرض، وقولهم لنبيهم موسى صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم: "ادخلوا الأرض المقدسة": "إنّا لَنْ نَدْخُلَها حتى يَخْرُجُوا مِنْها فإنْ يَخْرُجُوا مِنْها فإنّا دَاخِلُونَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {ولا ترتدوا على أدباركم} هذا، والله أعلم، كناية عن الرجوع عن الدين وهو كقوله تعالى: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} [آل عمران: 144] وإنما صار ذلك كناية عن الرجوع عن الدين، والله أعلم، لما ذكرنا في أحد التأويلين أنه كتب عليهم قتال أهل تلك الأرض، فتركوا أمر الله وطاعته. ويحتمل أن وعد الله لهم فتح تلك الأرض، فلم يصدقوا رسوله في ما أخبر عن الله من الفتح لهم، فكفروا بذلك.
{فتنقلبوا خاسرين} يحتمل أن يكون ذلك لهم في الآخرة، ويحتمل في الدنيا منهزمين. وقوله تعالى: {ولا ترتدوا على أدباركم} لا ترجعوا وراءكم، ولكن ادخلوها.
والمقدسة هي المطهرة، لأن التقديس التطهير، وإنما سمّاها الله المقدسةَ لأنها طَهُرَتْ من كثير من الشرك وجُعلت مسكناً وقراراً للأنبياء والمؤمنين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
من الفرق بين هذه الأمة وبين بني إسرائيل أنه أباح لهم دخولَ الأرض المقدسة على الخصوص فقال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} ثم إنهم لم يدخلوها إلا بعد مدة، وبعد جهد وشدة، وقال في شأن هذه الأمة {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] فأولئك كتب لهم دخول الأرض كتابةَ تكليف ثم قصروا، وهذه الأمة كتب لهم جميع الأرض على جهة التشريف، ثم وصلوا إلى ما كتب لهم وما قصروا. وقال: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} وقال لهذه الأمة: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك: 15] فهؤلاء ذلَّل لهم وسهَّل عليهم، وأولئك صعَّب عليهم الوصول إلى ما أمرهم فيما أنزل الله عليهم.
في قوله {كتب الله لكم} فائدة عظيمة، وهي أن القوم وإن كانوا جبارين إلا أن الله تعالى لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم، فإن كانوا مؤمنين مقرين بصدق موسى عليه السلام علموا قطعا أن الله ينصرهم عليهم ويسلطهم عليهم فلابد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع، فهذه هي الفائدة من هذه الكلمة. ثم قال: {ولا ترتدوا على أدباركم} وفيه وجهان: الأول: لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوة موسى عليه السلام، وذلك لأنه عليه السلام لما أخبر أن الله تعالى جعل تلك الأرض لهم كان هذا وعدا بأن الله تعالى ينصرهم عليهم، فلو لم يقطعوا بهذه النصرة صاروا شاكين في صدق موسى عليه السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوة. والوجه الثاني: المراد لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى الأرض التي خرجتم عنها...
وقوله {فتنقلبوا خاسرين} فيه وجوه: أحدها: خاسرين في الآخرة فإنه يفوتكم الثواب ويلحقكم العقاب، وثانيها: ترجعون إلى الذل، وثالثها: تموتون في التيه ولا تصلون إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد جربهم في مواطن كثيرة طوال الطريق الطويل.. ثم ها هو ذا معهم على أبواب الأرض المقدسة. أرض الميعاد التي من أجلها خرجوا. الأرض التي وعدهم الله أن يكونوا فيها ملوكا، وأن يبعث من بينهم الأنبياء فيها ليظلوا في رعاية الله وقيادته.. لقد جربهم فحق له أن يشفق، وهو يدعوهم دعوته الأخيرة، فيحشد فيها ألمع الذكريات، وأكبر البشريات، وأضخم المشجعات وأشد التحذيرات: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين).. نعمة الله. ووعده الواقع من أن يجعل فيهم أنبياء ويجعلهم ملوكا. وإيتاءه لهم بهذا وذلك ما لم يؤت أحدا من العالمين حتى ذلك التاريخ. والأرض المقدسة التي هم مقدمون عليها مكتوبة لهم بوعد الله. فهي إذن يقين.. وقد رأوا من قبل كيف صدقهم الله وعده. وهذا وعده الذي هم عليه قادمون.. والارتداد على الأدبار هو الخسران المبين..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة} هو الغرض من الخطاب، فهو كالمقصد بعد المقدّمة، ولذلك كرّر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء ب {يَا قَوم} لزيادة استحضار أذهانهم. والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه، أي تهيَّأوا للدخول. والأرض المقدّسة بمعنى المطهّرة المباركة، أي الّتي بارك الله فيها، أو لأنّها قُدّست بدفن إبراهيم عليه السلام في أوّل قرية من قراها وهي حَبْرون...
وقوله: {ولا ترتَدّوا على أدباركم} تحذير ممّا يوجب الانهزام، لأنّ ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال. والارتداد افتعال من الردّ، يقال: ردّه فارتدّ، والردّ: إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي سار منه. والأدبار: جمع دُبُر، وهو الظهر. والارتداد: الرجوع، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار، أي الوراء لأنّهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره، كما يقُولون: نكص على عقبيه، وركبوا ظهورهم، وارتدّوا على أدبارهم، وعلى أعقابهم، فعدّي ب {على} الدالّة على الاستعلاء، أي استعلاء طريق السير، نزّلت الأدبار الّتي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الّذي يسار عليه. والانقلاب: الرجوع، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل} [آل عمران: 174]. والمراد به هنا مطلق المصير.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كان تكرار النداء من موسى عليه السلام لعظم التنبيه، وخطر ما يدعوهم إليه، وعظم شأنه وكان تكرار كلمة "يا قوم "للإشارة إلى أن فيما يطلبه منهم عزهم جميعا ورفعة أقدارهم،...
وقد قرر الله سبحانه أنه كتب لهم أن يدخلوا بقوله تعالى: {كتب الله لكم} وهنا نجد المفعول غير مذكور، إلا أن المحذوف قد وجد ما يدل عليه، والمعنى كتب لكم أن تدخلوها، أي قدر لكم أن تدخلوها، وفرض عليكم دخولها لإنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وأعوانه، وقد تعدى فعل كتب باللام ولم يتعد بعلى للإشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لأجلهم ولحفظهم وللإشارة إلى أنه واقع لمنع ضياعهم. ولا يصح أن يقدر المفعول ضميرا كما نهج بعض المفسرين فيكون تقدير القول "كتبها لكم"، لأن مؤدى ذلك أن تكون لهم دائما مع أن النص الكريم لا يقتضيه ولا يصرح به، إذ الذي يصرح به أنه سبحانه قدر لهم أن يدخلوها، لا أن يكون قد كتبها وسجلها لهم...
ولقد كان رجوع بني إسرائيل إذا لم يعملوا على دخول الأرض المقدسة أن يعودوا إلى حكم فرعون، ويخسروا ما كسبوا من عزة وكرامة وحرية ويذهب عنهم، فإن البقاء على العزة يحتاج إلى مشقة الحصول عليها، ولئن ارتدوا عن العزة بعد نيلها فإنهم الخاسرون إذ لا يرضى بالعذاب الهون إلا الأخسرون.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} وكانت القافلة تسير إلى بيت المقدس، ولاحت لهم الأرض المقدسة من بعيد، فهي الهدف الَّذي عاشوا له من خلال موسى، فطلب منهم أن يدخلوها ليستقروا وليعيشوا الحكم العادل على أساس النبوّة، ولكنَّهم رفضوا ذلك العرض، لأنَّ الدخول إليها سوف يكلفهم صراعاً وقتالاً وتضحيات لا يريدونها.