السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ} (21)

ولما ذكرهم هذه النعم وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بجهاد العدوّ فقال :

{ يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة } أي : المطهرة وهي أرض بيت المقدس سمّيت بذلك لأنها كانت مسكن الأنبياء والمؤمنين وقال مجاهد : هي الطور وما حوله . وقال الكلبيّ : هي دمشق وفلسطين وبعض الأردُنّ وهو بضم الدال وتشديد النون اسم نهر أو كورة بالشأم قاله الجوهريّ ، وقال قتادة : هي الشأم كلها { التي كتب الله لكم } أي : في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن وقال السديّ : أمركم بدخولها .

فإن قيل : على القول الأوّل : كيف كتبها لهم بعد قوله تعالى بعد { فإنها محرمة عليهم } ؟ أجيب : بأجوبة أوّلها : قال ابن عباس : إنها كانت هبة ثم حرّمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم ، ثانيها : اللفظ وإن كان عاماً لكم المراد به الخصوص فكأنها كتبت لبعضهم وحرّمت على بعضهم ، ثالثها : إنّ الوعد بقوله تعالى : { كتب الله لكم } مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط ، رابعها : إنها محرّمة عليهم أربعين سنة فلما مضت الأربعون حصل ما كتب { ولا ترتدّوا على أدباركم } أي : ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من العدوّ { فتنقلبوا خاسرين } أي : في سعيكم ، وذلك أنّ قوم موسى لما أخرجوا من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشأم .

قال الكلبيّ : صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له : انظر ما أدرك بصرك فهو مقدّس وهو ميراث لذريّتك ، وكان بنو إسرائيل يسمّون أرض الشأم أرض الموعد ، ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأرض فلما دخلوا تلك الأماكن رأوا أجساماً عظيمة ، قال ابن عادل : قال المفسرون فأخذهم أحد أولئك الجبارين وجعلهم في كمّه مع فاكهة قد حملها ، من بساتينه ، وأتى بهم للملك ونثرهم بين يديه وقال تعجيباً للملك : هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه بما شاهدتم ، ثم انصرف هؤلاء النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلين منهم وهما يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا فتى موسى وكان من سبط يهوذا فإنهما سهّلا الأمر وقالا : هي بلاد طيبة كثيرة النعم والأقوام وإن كانت أجسامهم عظيمة إلا أنّ قلوبهم ضعيفة ، وأمّا العشرة الباقية من النقباء فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : يا ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا نموت في هذه البرية ولا يدخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم ، ويقولون لأصحابهم : قالوا : نجعل علينا رؤساء وننصرف إلى مصر .

فذلك قوله تعالى : { قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين }