التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{يَٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ} (21)

{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } .

ومعنى المقدسة : المطهرة المباركة بسبب أنها كانت موطنا لكثير من الأنبياء .

والمراد بها . بيت المقدس وقيل المراد بها : اريحاء وقيل : الطور وما حوله .

قال ابن جرير : وهي لا تخرج عن أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر ، لإجماع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك .

ومعنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } : قدر لكم سكناها ، ووعدكم إياها متى آمنتم به وأطعتم أنبياءه ، أو معناه : فرض عليكم دخولها وأمركم به كما أمركم بأداء الصلاة والزكاة - وسنفصل القول في هذه المسألة بعد تفسيرنا للآيات - .

ومفعول ( كتب ) محذوف . أي كتب لكم أن تدخلوها وفرض عليكم دخولها لإِنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وجنده .

وقد تعدى فعل ( كتب ) هنا باللام دون على ، للإِشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لمنفعتهم ولعزتهم ورفعة شأنهم .

وفي تكرير النداء من موسى لهم بقوله : { يَاقَوْمِ } مبالغة في حثهم على الامتثال لما يأمرهم به ، وتنبيه إلى خطر ما يدعوهم إليه وعظم شأنه .

وقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فيه حض شديد لهم على الاستجابة لأمره ، وإغراء لهم بالنصر والفوز ، لأن الذي كتب لهم أن يدخلوها متى آمنوا وأطاعوا هو الله الذي لا معقب لحكمه .

قال الإِمام الرازي : في قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فائدة عظيمة . وهي أن القوم كانوا جبارين إلا أن الله - تعالى - لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم ، فإن كان مؤمنين مقرين بصدق موسى - عليه السلام - علموا قطعا أن الله ينصرهم عليهم ، فلا بد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع " .

وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } تحذير لهم من الجبن والإِحجام ، بعد ترغيبهم الشديد في الشجاعة والإِقدام .

وقوله ( ترتدوا ) من الارتداد وهو الرجوع إلى الخلف .

و ( الأدبار ) جمع دبر وهو الظهر .

وهذا التعبير استعارة تمثيلية فيها تشبيه حال من يرجع عن الجهاد بعد أن توافرت أسبابه ، يحال من يتراجع سائرا بظهره إلى الوراء ، بدل أن يسير بوجهه إلى الأمام . وهذا التعبير يصور قبح الجبن والتخاذل حسا ومعنى .

وقوله ( فتنقلبوا ) من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشيء وهو مجزوم عطفا على فعل النهي وهو { وَلاَ تَرْتَدُّوا } .

والمعنى : أمضوا أيها القوم لأمر الله ، وسيروا خلفي لقتال الأعداء ودخول الأرض المقدسة التي أمركم - سبحانه - بدخولها ، ولا ترجعوا القهقري منصرفين عن القتال خوفا من أعدائكم ، ومبتعدين عن طاعتي وأمري ، فإن ذلك يؤدي بكم إلى الخسران في الدنيا والآخرة ، وإلى الحرمان من خيرات الأرض التي أوجب الله عليكم دخولها .

قال ابن جرير : فإن قال قائل : وما كان وجه قيل موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له ؟ قيل : إن الله - تعالى - كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به ، وفرض عليهم دخولها ، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم فرض عليهم من وجهين :

أحدهما : تضييع فرض الجهاد الذي كان الله فرضه عليهم .

والثاني : مخالفتهم أمر الله في تركهم دخول الأرض المقدسة .

هذا ، وقد جاءت هذه الجملة الكريمة ، وهي قوله - تعالى - : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } تحمل طابع التحذير الشديد ، وتنذرهم بالخسران المبين إذا لم يستجيبوا لأمر الله بعد أن ساق سلهم موسى ألوانا من المشجعات والمرغبات في الجهاد ، وذلك لأنه - عليه السلام - كان متوقعاً منهم الإِحجام عن القتال ، بعد أن جرب عنادهم وعصيانهم ونكوصهم على أعقابهم في مواطن كثيرة ، فهذه التجارب جعلته وهو يأمرهم بدخول الأرض المقدسة يذكر لهم أكبر النعم ويسوق لهم أكرم الذكريات وأقوى الضمانات وأشد التحذيرات لكي يقبلوا على الجهاد بعزيمة صادقة .