{ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } أي : ما تركك منذ اعتنى بك ، ولا أهملك منذ رباك ورعاك ، بل لم يزل يربيك أحسن تربية ، ويعليك درجة بعد درجة .
{ وَمَا قَلا } ك الله أي : ما أبغضك منذ أحبك ، فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده ، والنفي المحض لا يكون مدحًا ، إلا إذا تضمن ثبوت كمال ، فهذه حال الرسول صلى الله عليه وسلم الماضية والحاضرة ، أكمل حال وأتمها ، محبة الله له واستمرارها ، وترقيته في درج{[1447]} الكمال ، ودوام اعتناء الله به .
وجواب القسم قوله - تعالى - : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } أى : ام تركك ربك - أيها الرسول الكريم - منذ أن اختارك لحمل رسالته ، وما أبغضك ولا كرهك ، بل أنت محل رضانا ومحبتنا ورعايتنا .
فقوله : { ودعك } من التوديع ، وهو فى الأصل الدعاء للمسافر ، ببلوغ الدعة ، وخفض العيش ، ثم استعير للمفارقة بعد الاتصال ، تشبيها بفراق المسافر فى انقطاع الصلة ، حيث شبه - سبحانه - انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة الإِقامة .
والمقصود : نفى أن يكون الله - تعالى - قد قطع وحيه عن نبيه صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { قلى } من القِلاَ - بكسر القاف - وهو شدة البغض ، يقال : قلا فلان فلانا يقليه ، إذا كرهه وأبغضه بشدة . ومنه قوله - تعالى - : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين } والمراد ما قطع الله - تعالى - عنك وحيه - أيها الرسول الكريم - ، وما كرهك ، وهذا رد بليغ على المشركين الذين زعم بعضهم أن الله - تعالى - قد ترك نبيه ، وزعم آخرون أنه قد أبغضه ، وحذف مفعول " قلا " للدلالة عليه فى قوله - تعالى - { مَا وَدَّعَكَ } ، وهو إيجاز لفظى لظهور : المحذوف ، ومثله قوله - تعالى - بعد ذلك : { فآوى } ، { فهدى } ، { فأغنى } . .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس قال : سمعت جُنْدُبا يقول : اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتت امرأة فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك . فأنزل الله عز وجل : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }{[30173]} .
رواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، من طرق ، عن الأسود بن قيس ، عن جُنْدُب - هو ابن عبد الله البَجلي ثم العَلقي{[30174]} به{[30175]} وفي رواية سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس : سمع جندبًا قال : أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : وُدِّع محمد . فأنزل الله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }{[30176]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله{[30177]} الأودي قالا حدثنا أبو أسامة ، حدثني سفيان ، حدثني الأسود بن قيس ، أنه سمع جندبًا يقول : رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال :
هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت
قال : فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم ، فقالت له امرأة : ما أرى شيطانك إلا قد تركتك{[30178]} فنزلت : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } والسياق لأبي سعيد .
قيل : إن هذه المرأة هي : أم جميل امرأة أبي لهب ، وذكر أن إصبعه ، عليه السلام ، دميت . وقوله - هذا الكلام الذي اتفق أنه موزون - ثابت في الصحيحين{[30179]} ولكن الغريب هاهنا جعله سببًا لتركه القيام ، ونزول هذه السورة . فأما ما رواه ابن جرير :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، عن عبد الله ابن شداد : أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أرى ربك إلا قد قلاك . فأنزل الله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }
وقال أيضا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه قال : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فجزع جزعًا شديدًا ، فقالت خديجة : إني أرى ربك قد قلاك مما نَرى من جزعك . قال : فنزلت : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } إلى آخرها{[30180]} .
فإنه حديث مرسل من [ هذين الوجهين ]{[30181]} ولعل ذكر خديجة ليس محفوظًا ، أو قالته على وجه التأسف والتحزن ، والله أعلم .
وقد ذكر بعض السلف - منهم ابن إسحاق - أن هذه السورة هي التي أوحاها جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين تبدى له في صورته التي خلقه الله عليها ، ودنا إليه وتدلى منهبطًا عليه وهو بالأبطح ، { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] . قال : قال له هذه السورة : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }
قال العوفي ، عن ابن عباس : لما نزلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، أبطأ عنه جبريل أياما ، فتغير بذلك ، فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه . فأنزل الله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }
وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء ،
وقوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } أي : ما تركك ، { وَمَا قَلَى } أي : وما أبغضك ،
وقوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى وهذا جواب القسم ، ومعناه : ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك . وقيل : وَما قَلى ومعناه : وما قلاك ، اكتفاء بفهم السامع لمعناه ، إذ كان قد تقدّم ذلك قولُه : ما وَدّعَكَ فعُرف بذلك أن المخاطب به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى يقول : ما تركك ربك ، وما أبغضك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال : ما قلاك ربك وما أبغضك قال : والقالي : المبغض .
وذُكر أن هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذيبا من الله قريشا في قيلهم لرسول الله ، لما أبطأ عليه الوحي : قد ودّع محمدا ربّه وقَلاه . ذكر الرواية بذلك :
حدثني عليّ بن عبد الله الدهان ، قال : حدثنا مفضل بن صالح ، عن الأسود بن قيس العبديّ ، عن ابن عبد الله ، قال : لما أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت امرأة من أهله ، أو من قومه : ودّع الشيطان محمدا ، فأنزل الله عليه : وَالضّحَى . . . إلى قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
قال أبو جعفر : ابن عبد الله : هو جُندَب بن عبد الله البَجَلي .
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، ومحمد بن هارون القطان ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس سمع جندبا البجليّ يقول : أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قال المشركون : ودّع محمدا ربّه ، فأنزل الله : وَالضّحَى واللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، أنه سمع جندبا البَجَليّ قال : قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أرى صاحبك إلا قد أبطأ عنك ، فنزلت هذه الاَية : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس ، قال : سمعت جندب بن عبد الله يقول : إن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فنزلت : والضُحَى وَاللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا سليمان الشيبانيّ ، عن عبد الله بن شدّاد أن خديجة قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ما أرى ربك إلا قد قلاك ، فأنزل الله : وَالضّحَى وَاللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال : إن جبريل عليه السلام أبطأ عليه بالوحي ، فقال ناس من الناس ، وهم يومئذٍ بمكة ، ما نرى صاحبك إلا قد قلاك فودّعك ، فأنزل الله ما تسمع : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلَى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال : أبطأ عليه جبريل ، فقال المشركون : قد قلاه ربّه وودّعه ، فأنزل الله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى مكث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : قد ودّعه ربه وقلاه ، فأنزل الله هذه الاَية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى قال : لما نزل عليه القرآن ، أبطأ عنه جبريل أياما ، فعُيّر بذلك ، فقال المشركون : ودّعه ربه وقلاه ، فأنزل الله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجزع جزعا شديدا ، وقالت خديجة : أرى ربك قد قَلاك ، مما نرى من جزعك ، قال : فنزلت والضّحَى واللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى . . . إلى آخرها .