ولما أقسم بهذا القسم المناسب لحاله صلى الله عليه وسلم ، أجابه بقوله تعالى : { ما ودعك } أي تركك تركاً يحصل به فرقة كفرقة المودع ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع { ربك } أي الذي أحسن إليك بإيجادك أولاً ، وجعلك أكمل الخلق ثانياً ، ورباك أحسن تربية ثالثاً ، كما أنه لا يمكن توديع الليل للنهار بل الضحى للنهار الذي هو أشد ضيائه ، ولا يمكن توديع الضحى للنهار ولا الليل وقت سجوه له .
ولما كان ربما تعنت متعنت فقال : ما تركه ولكنه لا يحبه ، فكم من مواصل وليس بواصل ، قال نافياً لكل ترك : { وما قلى * } أي وما أبغضك بغضاً ما ، وحذف الضمير اختصاراً لفظياً ليعم ، فهو من تقليل اللفظ لتكثير المعنى ، وذلك لأنه كان انقطع عنه الوحي مدة لأنهم سألوه عن الروح وقصة أهل الكهف وذي القرنين فقال : " أخبركم بذلك غداً " ، ولم يستثن ، فقالوا : قد ودعه ربه وقلاه ، فنزلت لذلك ، ولما نزلت كبر صلى الله عليه وسلم فكان التكبير فيها وفيما بعدها سنة كما يأتي إيضاحه وحكمته آخرها ، وقد أفهمت هذه العبارة أن المراتب التقريبية أربع : تقريب بالطاعات ومحبة وهي للمؤمنين ، وإبعاد بالمعاصي وبغض وهي للكفار ، وتقريب بالطاعات مخلوط بتبعيد للمعاصي وهي لعصاة المؤمنين ، وإعراض مخلوط بتقريب بصور طاعات لا قبول لها وهي لعباد الكفار .
وقال الأستاذ أبو جعفر ابن الزبير : لما قال تعالى : { فألهمها فجورها وتقواها }[ الشمس : 8 ] ثم أتبعه بقوله في الليل : { فسنيسره }[ الليل : 7 - 13 ] وبقوله : { إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى }[ الليل : 7 - 13 ] ، فلزم الخوف واشتد الفزع وتعين على الموحد الإذعان للتسليم والتضرع في التخلص والتجاؤه إلى السميع العليم ، أنس تعالى أحب عباده إليه وأعظمهم منزلة لديه ، وذكر له ما منحه من تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له فقال تعالى : { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى } ثم عدد تعالى عليه نعمه بعد وعده الكريم له بقوله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } وأعقب ذلك بقوله : { فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر } فقد آويتك قبل تعرضك وأعطيتك قبل سؤالك ، فلا تقابله بقهر من تعرض وانتهار من سأل ، وقد حاشاه سبحانه عما نهاه عنه ولكنه تذكير بالنعم وليستوضح الطريق من وفق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أما هو صلى الله عليه وسلم فحسبك من تعرف رحمته ورفقه { وكان بالمؤمنين رحيماً }[ الأحزاب : 43 ]{ عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }[ التوبة : 128 ] ثم تأمل استفتاح هذه السورة ومناسبة ذلك المقصود ولذلك السورة قبلها برفع القسم في الأولى بقوله : { والليل إذا يغشى }[ الليل : 1 ] تنبيهاً على إبهام الأمر في السلوك على المكلفين وغيبة حكم العواقب ، وليناسب هذا حال المتذكر بالآيات وما يلحقه من الخوف مما أمره غائب عنه من تيسيره ومصيره واستعصامه به يحصل اليقين واستصغار درجات المتقين ، ثم لما لم يكن هذا غائباً بالجملة عن آحاد المكلفين أعني ما يثمر العلم اليقين ويعلي من أهل للترقي في درجات المتقين ، بل قد يطلع سبحانه خواص عباده - بملازمة التقوى والاعتبار - على واضحة السبيل ويريهم مشاهدة وعياناً ما قد انتهجوا قبل سبيله بمشقة النظر في الدليل ، قال صلى الله عليه وسلم لحارثة : " وجدت فالزم " وقال مثله للصديق ، وقال تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة }[ يونس : 64 ] { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة }[ فصلت : 30 ] فلم يبق في حق هؤلاء ذلك الإبهام ، ولا كدر خواطرهم بتكاثف ذلك الظلام ، بما منحهم سبحانه وتعالى من نعمة الإحسان بما وعدهم في قوله : { يجعل لكم فرقاناً }[ الأنفال : 29 ] و{ يجعل لكم نوراً تمشون به }[ الحديد : 28 ]{ أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }[ الأنعام : 122 ] فعمل هؤلاء على بصيرة ، واستولوا اجتهاداً بتوفيق ربهم على أعمال جليلة خطيرة ، فقطعوا عن الدنيا الآمال ، وتأهبوا لآخرتهم بأوضح الأعمال { تتجافى جنوبهم عن المضاجع }[ السجدة : 16 ] { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين }[ السجدة : 17 ] فلابتداء الأمر وشدة الإبهام والإظلام أشار قوله سبحانه وتعالى : { والليل إذا يغشى } ولما يؤول إليه الحال في حق من كتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه أشار قوله سبحانه وتعالى : { والنهار إذا تجلى } ولانحصار السبل وإن تشعبت في طريقي { فمنكم كافر ومنكم مؤمن }[ التغابن : 2 ] { فريق في الجنة وفريق في السعير }[ الشورى : 7 ] أشار قوله سبحانه وتعالى :{ وما خلق الذكر والأنثى }[ الليل : 3 ]{ ومن كل شيء خلقنا زوجين }[ الذاريات : 49 ] { ففروا إلى الله }[ الذاريات : 50 ] الواحد مطلقاً ، فقد وضح لك إن شاء الله بعض ما يسر من تخصيص هذا القسم - والله أعلم ، أما سورة الضحى فلا إشكال في مناسبة في استفتاح القسم بالضحى لما يسره به سبحانه لا سيما إذا اعتبر ما ذكر من سبب نزول السورة ، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قد فتر عنه الوحي حتى قال بعض الكفار : قلى محمداً ربه ، فنزلت السورة مشعرة عن هذه النعمة والبشارة - انتهى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.