نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (3)

ولما أقسم بهذا القسم المناسب لحاله صلى الله عليه وسلم ، أجابه بقوله تعالى : { ما ودعك } أي تركك تركاً يحصل به فرقة كفرقة المودع ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع { ربك } أي الذي أحسن إليك بإيجادك أولاً ، وجعلك أكمل الخلق ثانياً ، ورباك أحسن تربية ثالثاً ، كما أنه لا يمكن توديع الليل للنهار بل الضحى للنهار الذي هو أشد ضيائه ، ولا يمكن توديع الضحى للنهار ولا الليل وقت سجوه له .

ولما كان ربما تعنت متعنت فقال : ما تركه ولكنه لا يحبه ، فكم من مواصل وليس بواصل ، قال نافياً لكل ترك : { وما قلى * } أي وما أبغضك بغضاً ما ، وحذف الضمير اختصاراً لفظياً ليعم ، فهو من تقليل اللفظ لتكثير المعنى ، وذلك لأنه كان انقطع عنه الوحي مدة لأنهم سألوه عن الروح وقصة أهل الكهف وذي القرنين فقال : " أخبركم بذلك غداً " ، ولم يستثن ، فقالوا : قد ودعه ربه وقلاه ، فنزلت لذلك ، ولما نزلت كبر صلى الله عليه وسلم فكان التكبير فيها وفيما بعدها سنة كما يأتي إيضاحه وحكمته آخرها ، وقد أفهمت هذه العبارة أن المراتب التقريبية أربع : تقريب بالطاعات ومحبة وهي للمؤمنين ، وإبعاد بالمعاصي وبغض وهي للكفار ، وتقريب بالطاعات مخلوط بتبعيد للمعاصي وهي لعصاة المؤمنين ، وإعراض مخلوط بتقريب بصور طاعات لا قبول لها وهي لعباد الكفار .

وقال الأستاذ أبو جعفر ابن الزبير : لما قال تعالى : { فألهمها فجورها وتقواها }[ الشمس : 8 ] ثم أتبعه بقوله في الليل : { فسنيسره }[ الليل : 7 - 13 ] وبقوله : { إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى }[ الليل : 7 - 13 ] ، فلزم الخوف واشتد الفزع وتعين على الموحد الإذعان للتسليم والتضرع في التخلص والتجاؤه إلى السميع العليم ، أنس تعالى أحب عباده إليه وأعظمهم منزلة لديه ، وذكر له ما منحه من تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له فقال تعالى : { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى } ثم عدد تعالى عليه نعمه بعد وعده الكريم له بقوله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } وأعقب ذلك بقوله : { فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر } فقد آويتك قبل تعرضك وأعطيتك قبل سؤالك ، فلا تقابله بقهر من تعرض وانتهار من سأل ، وقد حاشاه سبحانه عما نهاه عنه ولكنه تذكير بالنعم وليستوضح الطريق من وفق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أما هو صلى الله عليه وسلم فحسبك من تعرف رحمته ورفقه { وكان بالمؤمنين رحيماً }[ الأحزاب : 43 ]{ عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }[ التوبة : 128 ] ثم تأمل استفتاح هذه السورة ومناسبة ذلك المقصود ولذلك السورة قبلها برفع القسم في الأولى بقوله : { والليل إذا يغشى }[ الليل : 1 ] تنبيهاً على إبهام الأمر في السلوك على المكلفين وغيبة حكم العواقب ، وليناسب هذا حال المتذكر بالآيات وما يلحقه من الخوف مما أمره غائب عنه من تيسيره ومصيره واستعصامه به يحصل اليقين واستصغار درجات المتقين ، ثم لما لم يكن هذا غائباً بالجملة عن آحاد المكلفين أعني ما يثمر العلم اليقين ويعلي من أهل للترقي في درجات المتقين ، بل قد يطلع سبحانه خواص عباده - بملازمة التقوى والاعتبار - على واضحة السبيل ويريهم مشاهدة وعياناً ما قد انتهجوا قبل سبيله بمشقة النظر في الدليل ، قال صلى الله عليه وسلم لحارثة : " وجدت فالزم " وقال مثله للصديق ، وقال تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة }[ يونس : 64 ] { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة }[ فصلت : 30 ] فلم يبق في حق هؤلاء ذلك الإبهام ، ولا كدر خواطرهم بتكاثف ذلك الظلام ، بما منحهم سبحانه وتعالى من نعمة الإحسان بما وعدهم في قوله : { يجعل لكم فرقاناً }[ الأنفال : 29 ] و{ يجعل لكم نوراً تمشون به }[ الحديد : 28 ]{ أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }[ الأنعام : 122 ] فعمل هؤلاء على بصيرة ، واستولوا اجتهاداً بتوفيق ربهم على أعمال جليلة خطيرة ، فقطعوا عن الدنيا الآمال ، وتأهبوا لآخرتهم بأوضح الأعمال { تتجافى جنوبهم عن المضاجع }[ السجدة : 16 ] { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين }[ السجدة : 17 ] فلابتداء الأمر وشدة الإبهام والإظلام أشار قوله سبحانه وتعالى : { والليل إذا يغشى } ولما يؤول إليه الحال في حق من كتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه أشار قوله سبحانه وتعالى : { والنهار إذا تجلى } ولانحصار السبل وإن تشعبت في طريقي { فمنكم كافر ومنكم مؤمن }[ التغابن : 2 ] { فريق في الجنة وفريق في السعير }[ الشورى : 7 ] أشار قوله سبحانه وتعالى :{ وما خلق الذكر والأنثى }[ الليل : 3 ]{ ومن كل شيء خلقنا زوجين }[ الذاريات : 49 ] { ففروا إلى الله }[ الذاريات : 50 ] الواحد مطلقاً ، فقد وضح لك إن شاء الله بعض ما يسر من تخصيص هذا القسم - والله أعلم ، أما سورة الضحى فلا إشكال في مناسبة في استفتاح القسم بالضحى لما يسره به سبحانه لا سيما إذا اعتبر ما ذكر من سبب نزول السورة ، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قد فتر عنه الوحي حتى قال بعض الكفار : قلى محمداً ربه ، فنزلت السورة مشعرة عن هذه النعمة والبشارة - انتهى .