قوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } ، هذا جواب القسم ، والعامة : على تشديد الدال من التوديع .
وقرأ{[60386]} عروة بن الزبير وابنه هاشم ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة بتخفيفها ، من قولهم : «ودَعَهُ » ، أي : تركه والمشهور في اللغة الاستغناء عن «ودع ، ووذرَ » واسم فاعلهما ، واسم مفعولهما ومصدرهما ب «ترك » وما تصرف منه ، وقد جاء «ودع ووذَرَ » ؛ قال الشاعر : [ الرمل ]
5234- سَلْ أمِيرِي : ما الَّذي غَيَّرهُ *** عَنْ وصالِي اليَوْمَ حَتَّى وَدَعَهْ{[60387]}
5235- وثَمَّ ودعْنَا آل عمرٍو وعامِرٍ*** فَرائِسَ أطْرافِ المُثقَّفَةِ السُّمْرِ{[60388]}
قيل : والتوديع مبالغة في الودع ؛ لأن من ودعك مفارقاً ، فقد بالغ في تركك .
قال القرطبيُّ{[60389]} : واستعماله قليل يقال : هو يدع كذا ، أي : يتركه .
قال المبرد : لا يكادون يقولون : ودع ، ولا ذر ، لضعف الواو إذا قدمت ، واستغنوا عنهما ب «ترك » .
قوله : { وَمَا قلى } ، أي : ما أبغضك ، يقال : قلاه يقليه - بكسر العين في المضارع - وتقول : قلاه يقلاه ، بالفتح ؛ قال : [ الهزج ]
5236- أيَا مَنْ لَستُ أنسَاهُ *** وَلاَ واللَّهِ أقْلاه
لَكَ اللَّهُ عَلَى ذَاكَا *** لَكَ اللَّهُ لَكَ اللَّهُ{[60390]}
وحذف مفعول «قَلاَ » مراعاة للفواصل مع العلم به ، وكذا بعد «فآوَى » وما بعده .
القلى : البغض ، أي : ما أبغضك ربك منذ أحبك ، فإن فتحت القاف مددت ، تقول : قلاه يقليه قلى وقلاء ، كما تقول : قريت الضيف أقرية قرى وقراء ، ويقلاه : لغة طيىء . وأنشد :
5237- *** أيَّامَ أمِّ الغَمْرِ لا نَقْلاَهَا{[60391]} ***
أي : لا نبغضها ، ونقلي : أي : نبغض ؛ وقال : [ الطويل ]
5238- أسِيئِي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَةٌ *** لَديْنَا ولا مَقلِيَّةٌ إنْ تقلَّتِ{[60392]}
5239- . . . *** ولَسْتُ بِمقْلِيِّ الخِلالِ ولا قَالِ{[60393]}
ومعنى الآية : ما ودعك ربك وما قلاك ، فترك الكاف ، لأنه رأس آية ، كقوله تعالى : { والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] أي : والذاكرات الله .
قال المفسرون : انحبس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر يوماً .
وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً [ وقيل خمسة وعشرين يوماً .
وقال مقاتل : أربعين يوماً ]{[60394]} .
فقال المشركون : إن محمداً صلى الله عليه وسلم قلاه ربه وودعه ، ولو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء ، فنزلت هذه الآية .
وروى البخاريُّ عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين ، أو ثلاث ، فجاءت أم جميل امرأة أبي لهب - لعنة الله عليها - فقالت : يا محمدُ ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك ليلتين ، أو ثلاث ، فأنزل الله تعالى : { والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى }{[60395]} .
وروي عن أبي عمران الجوني : قال : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم حتى شق عليه ، فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو ، فنكت بين كتفيه ، وأنزل عليه : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى }{[60396]} .
وروي أن خولة كانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن جرواً دخل البيت ، فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي الله أياماً لا ينزل عليه الوحي ، فقال : «يا خولةُ ما حدّثَ في بَيْتِي ؟ ما لِجِبْريلَ لا يَأْتِينِي » ؟ قالت خولة : فقلت : لو هيأت البيت ، وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فإذا جرو ميت ، فأخذته ، فألقيته خلف الجدار ، فجاء نبي الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال : يا خولة دثِّرِيِنْي ، فأنزل الله هذه السورة ، ولما نزل جبريل سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التّأخر ، فقال : «أما عَلِمْتَ أنَّا لا ندخلُ بَيْتَاً فيهِ كَلبٌ ، ولا صُورةٌ »{[60397]} .
وقيل : لما سألته اليهود عن الروح ، وذي القرنين وأهل الكهف ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَأخْبركُمْ غداً » ولم يقل : إن شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل - عليه السلام - بقوله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] ، فأخبره بما سئل عنه ، وفي هذه القصة نزلت : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.