اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (3)

قوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } ، هذا جواب القسم ، والعامة : على تشديد الدال من التوديع .

وقرأ{[60386]} عروة بن الزبير وابنه هاشم ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة بتخفيفها ، من قولهم : «ودَعَهُ » ، أي : تركه والمشهور في اللغة الاستغناء عن «ودع ، ووذرَ » واسم فاعلهما ، واسم مفعولهما ومصدرهما ب «ترك » وما تصرف منه ، وقد جاء «ودع ووذَرَ » ؛ قال الشاعر : [ الرمل ]

5234- سَلْ أمِيرِي : ما الَّذي غَيَّرهُ *** عَنْ وصالِي اليَوْمَ حَتَّى وَدَعَهْ{[60387]}

وقال آخر : [ الطويل ]

5235- وثَمَّ ودعْنَا آل عمرٍو وعامِرٍ*** فَرائِسَ أطْرافِ المُثقَّفَةِ السُّمْرِ{[60388]}

قيل : والتوديع مبالغة في الودع ؛ لأن من ودعك مفارقاً ، فقد بالغ في تركك .

قال القرطبيُّ{[60389]} : واستعماله قليل يقال : هو يدع كذا ، أي : يتركه .

قال المبرد : لا يكادون يقولون : ودع ، ولا ذر ، لضعف الواو إذا قدمت ، واستغنوا عنهما ب «ترك » .

قوله : { وَمَا قلى } ، أي : ما أبغضك ، يقال : قلاه يقليه - بكسر العين في المضارع - وتقول : قلاه يقلاه ، بالفتح ؛ قال : [ الهزج ]

5236- أيَا مَنْ لَستُ أنسَاهُ *** وَلاَ واللَّهِ أقْلاه

لَكَ اللَّهُ عَلَى ذَاكَا *** لَكَ اللَّهُ لَكَ اللَّهُ{[60390]}

وحذف مفعول «قَلاَ » مراعاة للفواصل مع العلم به ، وكذا بعد «فآوَى » وما بعده .

فصل في «القِلَى »

القلى : البغض ، أي : ما أبغضك ربك منذ أحبك ، فإن فتحت القاف مددت ، تقول : قلاه يقليه قلى وقلاء ، كما تقول : قريت الضيف أقرية قرى وقراء ، ويقلاه : لغة طيىء . وأنشد :

5237- *** أيَّامَ أمِّ الغَمْرِ لا نَقْلاَهَا{[60391]} ***

أي : لا نبغضها ، ونقلي : أي : نبغض ؛ وقال : [ الطويل ]

5238- أسِيئِي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَةٌ *** لَديْنَا ولا مَقلِيَّةٌ إنْ تقلَّتِ{[60392]}

وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]

5239- . . . *** ولَسْتُ بِمقْلِيِّ الخِلالِ ولا قَالِ{[60393]}

ومعنى الآية : ما ودعك ربك وما قلاك ، فترك الكاف ، لأنه رأس آية ، كقوله تعالى : { والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] أي : والذاكرات الله .

فصل في سبب نزول الآية

قال المفسرون : انحبس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر يوماً .

وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً [ وقيل خمسة وعشرين يوماً .

وقال مقاتل : أربعين يوماً ]{[60394]} .

فقال المشركون : إن محمداً صلى الله عليه وسلم قلاه ربه وودعه ، ولو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء ، فنزلت هذه الآية .

وروى البخاريُّ عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين ، أو ثلاث ، فجاءت أم جميل امرأة أبي لهب - لعنة الله عليها - فقالت : يا محمدُ ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك ليلتين ، أو ثلاث ، فأنزل الله تعالى : { والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى }{[60395]} .

وروي عن أبي عمران الجوني : قال : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم حتى شق عليه ، فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو ، فنكت بين كتفيه ، وأنزل عليه : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى }{[60396]} .

وروي أن خولة كانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن جرواً دخل البيت ، فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي الله أياماً لا ينزل عليه الوحي ، فقال : «يا خولةُ ما حدّثَ في بَيْتِي ؟ ما لِجِبْريلَ لا يَأْتِينِي » ؟ قالت خولة : فقلت : لو هيأت البيت ، وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فإذا جرو ميت ، فأخذته ، فألقيته خلف الجدار ، فجاء نبي الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال : يا خولة دثِّرِيِنْي ، فأنزل الله هذه السورة ، ولما نزل جبريل سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التّأخر ، فقال : «أما عَلِمْتَ أنَّا لا ندخلُ بَيْتَاً فيهِ كَلبٌ ، ولا صُورةٌ »{[60397]} .

وقيل : لما سألته اليهود عن الروح ، وذي القرنين وأهل الكهف ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «سَأخْبركُمْ غداً » ولم يقل : إن شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل - عليه السلام - بقوله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] ، فأخبره بما سئل عنه ، وفي هذه القصة نزلت : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } .


[60386]:ينظر: المحرر الوجيز 5/493.
[60387]:نسب البيت إلى سويد بن أبي كاهل، ونسب إلى أبي الأسود الدؤلي، وكذلك نسب لأنس بن زنيم ويروي: ليت شعري عن خليلي ما الذي *** غاله في الحب حتى ودعه ينظر المحتسب 2/314، والخصائص 1/99، وشرح شواهد الشافية ص 50، واللسان (ودع)، والبحر المحيط 8/48، والدر المصون 6/537.
[60388]:ينظر الكشاف 4/766، والقرطبي 20/64، والبحر 8/480، والدر المصون 6/537.
[60389]:ينظر الجامع لأحكام القرآن (20/64).
[60390]:يروى البيت الأول: أيا من لست أقلاه *** ولا في البعد أنساه ينظر الدرر 6/48، وشرح الأشموني 2/49، وشرح عمدة الحافظ ص 537، والمقاصد النحوية 4/97، وهمع الهوامع 2/125، والدرر المصون 6/537.
[60391]:ينظر القرطبي 20/64، واللسان (قلا).
[60392]:تقدم.
[60393]:عجز بيت وصدره: *** صرفت الهوى عنهن من خشية الردى *** ينظر ديوانه ص 35، واللسان (خلل)، والقرطبي 20/64.
[60394]:سقط من: ب.
[60395]:أخرجه البخاري (8/580) كتاب التفسير: باب ما ودعك ربك وما قلى، رقم (4950) ومسلم (3/1422) كتاب الجهاد والسير: باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين رقم (115/1797) والترمذي (5/411) رقم (3345) والنسائي في "الكبرى" (6/518) والطبري في "تفسيره" (12/623) من حديث جندب بن عبد الله بن عبد الله بن سفيان البجلي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[60396]:ينظر تفسير القرطبي (20/63).
[60397]:ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/141) وقال رواه الطبراني وأم حفص لم أعرفها. وذكره الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (3/396) رقم (3806) وعزاه إلى ابن أبي شيبة في "مسنده".