محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (3)

{ ما ودعك ربك } جواب القسم أي ما تركت وما قطعك قطع المودع .

قال الشهاب في ( العناية ) فالتودع مستعار تبعية للترك هنا وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته كما قال المتنبي :

حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا*** فلم أدر أي الظاغين أشيع

وقال في ( شرح الشفاء ) الوداع له معنيان في اللغة الترك وتشييع المسافر فإن فسر بالثاني هنا على طريق الاستعارة يكون فيه إيماء إلى أن الله لم يتركه أصلا ، فإنه معه أينما كان وإنما الترك لو تصور في جانبه ظاهر مع دلالته بهذا المعنى على الرجوع ، فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده وإليه أشار الأرجاني بقوله :

إذا رأيت الوداع فاصبر*** ولا يهمنك البعاد

وانتظر العود عن قريب*** فإن قلب الوداع ( عادوا )

فقوله { وما قلى } مؤكد له ( قال ) وهذا لم أر من ذكره مع غاية لطفه وكلهم فسروه بالمعنى الأول ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه يقتضي الانقطاع التام ، قالوا إن المبالغة في النفي لا في المنفي فتركه لحكم عليه لا لضرورة يهجره أو لنفي القيد والمقيد وقرىء { ما ودعك ربك } بالتخفيف وورد في الحديث {[7495]} " 'شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه " وورد في الشعر كقوله{[7496]}

فكان ما قدموا لأنفسهم *** أعظم نفعا من الذي ودعوا

ولهذا قال في ( المصباح ) بهذا اعلم أن قولهم في علم التصريف أماتوا ماضي يدع ويذر خطأ وجعله استعارة من الوديعة تعسف انتهى .

وكذا قال في ( المستوفي ) أنه كله ورد في كلام العرب و لا عبرة بكلام النحاة فيه وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وإن كان نادر انتهى .

وقوله تعالى { وما قلى } أي وما أبغضك والقالي المبغض يعني ما هجرك عن بغض .

قال الشهاب وحذف مفعول { قلى } اختصارا للعلم به وليجري على نهج الفواصل التي بعده أو لئلا يخاطبه بما يدل على البغض .

تنبيه : روى ابن جرير{[7497]} عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياما فعير بذلك ، فقال المشركون ودعه ربه وقلاه ، فأنزل الله هذه الآية " وفي رواية إن قائل ذلك امرأة أبي لهب وفي أخرى إنها خديجة رضي الله عنها ولا تنافي لاحتمال صدوره من الجميع إلا أن قول المشركين وقول خديجة ، إن صح توجع وتحزن وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال " فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه فقال لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني فجاء جبريل بسورة والضحى ،


[7495]:أخرجه البخاري في 78- كتاب الدب 48- باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب حديث رقم 2330 عن عائشة.
[7496]:أنشد في اللسان (مجلد 8 ص 384) الطبعة البيرونية).
[7497]:انظر الصفحة رقم 231 من الجزء الثلاثين (طبعة الحلبي الثانية).