السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (3)

وقوله تعالى : { ما ودّعك } ، أي : تركك يا أشرف الرسل تركاً تحصل به فرقة كفرقة المودّع ، ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع { ربك } ، أي : المحسن إليك جواب القسم { وما قلى } ، أي : وما أبغضك بغضاً ما ، وتركت الكاف لأنه رأس آية كقوله تعالى : { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] أي الله .

تنبيه : اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال :

أحدها ما روى البخاري عن جندب بن سفيان قال : «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت أمّ جميل امرأة أبي لهب ، فقالت : يا محمد ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث » فنزلت .

ثانيها : ما روى أبو عمرو قال : «أبطأ جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى شق عليه فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو وأنزل عليه الآية » .

ثالثها : ما روي «أنّ خولة كانت تخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلم أياماً لا ينزل عليه الوحي ، فقال صلى الله عليه وسلم يا خولة ما حدث في بيتي إنّ جبريل عليه السلام لا يأتيني قالت خولة : فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة ، فقال : يا خولة ، دثريني فأنزل الله تعالى هذه السورة .

ولما نزل جبريل عليه السلام سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التأخير فقال : أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة » .

رابعها : ما روي «أنّ اليهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف ؟ فقال صلى الله عليه وسلم سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى : { ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً 23 إلا أن يشاء الله } [ الكهف : 23 ] فأخبره بما سئل عنه ، وفي هذه القصة نزلت { ما ودّعك ربك } » واختلفوا في مدّة احتباس الوحي عنه . فقال ابن جرير : اثنا عشر يوماً . وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً . وقال مقاتل : أربعون يوماً . قالوا : وقال المشركون : إنّ محمداً ودّعه ربه وقلاه فأنزل الله تعالى هذه السورة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك ؟ فقال جبريل عليه السلام : إني كنت إليك أشدّ شوقاً ولكني عبد مأمور وأنزل الله تعالى : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } » [ مريم : 64 ] .