غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (3)

1

وأما السبب في الأقسام نفسه فلأن الكفار لما ادّعوا أن ربه ودعه وقلاه وقد ثبت أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر قال لهم : هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه . وفيه أن الليل والنهار لا يسلمان من الزيادة والنقصان فيكف تطمع أن تسلم عن الخلق ؟ وفيه أن الليل زمان الاستيحاش والنهار وقت الاجتماع والمعاش فكأنه قال : استبشر فإن بعد الاستيحاش بسبب انقطاع الوحي يظهر ضحى نزول الوحي . وفيه أن الضحى لما كان وقت موعد موسى لمعارضة السحرة كما قال { موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى } [ طه :59 ] شرفه الله بأن أقسم به فعلم منه أن فضيلة الإنسان لا تضيع ثمرتها .

وفيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم أن الذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك حتى يسلموا . وفيه أن الضحى وهو ساعة من النهار يوازي جميع الليل كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته يوازي جميع الأنبياء وأممهم . وفيه أن النهار وقت السرور والاجتماع والليل وقت الغموم والوحشة ، ففي الاقتصار على ذكر الضحى إشارة إلى أن غموم الدنيا أدوم من سرورها . يروى أن الله تعالى حين خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يساره ونادت : ماذا أمطر ؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة سنة . ثم انكشف فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلاثمائة سنة ، ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت : ماذا أمطر ؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا السبب ترى الهموم دائمة والأفراح نادرة . وفي تقديم الضحى على الليل إشارة إلى أن الحياة أولى للمؤمن من الموت إلى أن تحصل كمالاته الممكنة له . وأيضاً إنه ذكر الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه ، ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره . الثالثة : لا استعباد فيما يذكره الواعظ من تشبيه وجه محمد صلى الله عليه وسلم بالضحى وشعره بالليل . ومنهم من قال : الضحى ذكور أهل بيته ، والليل إناثهم . أو الضحى رسالته ، والليل زمان احتباس الوحي كما مرّ . ويحتمل أن يقال : الضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه الذي به يستر جميع العيوب . أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريباً ، والليل إشارة إلى أنه سيعود غريباً . أو الضحى كمال العقل ، والليل وقت السكون في القبر . أو أراد أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيباً وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيباً . قال المفسرون : أبطأ جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر يوماً عن ابن جريج ، أو خمسة عشر عن الكلبي ، أو خمسة وعشرين يوماً عن ابن عباس ، أو أربعين عن السدّي ومقاتل . والسبب فيه أن اليهود سألوه عن ثلاث مسائل كما مرّ في " الكهف " فقال ؛ سأخبركم غداً ولم يقل " إن شاء الله " أو لأنّ جرواً للحسن والحسين كان في بيته أو لأنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار ، فزعم المشركون أن ربه ودعه وقلاه . وروي أن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت السورة . والتوديع مبالغة في الوداع لأن من ودعك فقد بالغ في تركك . والقلى البغض وحذف المفعول من " قلاك " و " آواك " و " هداك " و " أغناك " للفاصلة مع دلالة قرينة الحال أو المقال . والذي يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم شكا إلى خديجة إن ربي ودعني وقلاني .

إن ثبت فمحمول على أنه أراد امتحان خديجة ليعلم بعد غورها في المعرفة والعلم كما روي أنها قالت : والذي بعثك بالحق ما أهداك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك .

/خ11