قوله تعالى : { ولولا فضل الله عليك ورحمته } ، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { لهمت } ، لقد همت أي : أضمرت .
قوله تعالى : { طائفة منهم } ، يعني : قوم طعمة .
قوله تعالى : { أن يضلوك } يخطئوك في الحكم ، ويلبسوا عليك الأمر ، حتى تدافع عن طعمة .
قوله تعالى : { وما يضلون إلا أنفسهم } ، يعني يرجع وباله عليهم .
قوله تعالى : { وما يضرونك من شيء } ، يريد أن ضرره يرجع إليهم .
قوله تعالى : { وأنزل الله عليك الكتاب } ، يعني : القرآن .
قوله تعالى : { والحكمة } ، يعني : القضاء بالوحي .
قوله تعالى : { وعلمك ما لم تكن تعلم } من الأحكام ، وقيل : من علم الغيب .
ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ } وذلك أن هذه الآيات الكريمات قد ذكر المفسرون أن سبب نزولها : أن أهل بيت سرقوا في المدينة ، فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة ، وأخذوا سرقتهم فرموها ببيت من هو بريء من ذلك .
واستعان السارق بقومه أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يبرئ صاحبهم على رءوس الناس ، وقالوا : إنه لم يسرق وإنما الذي سرق من وجدت السرقة ببيته وهو البريء . فهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ صاحبهم ، فأنزل الله هذه الآيات تذكيرا وتبيينا لتلك الواقعة وتحذيرا للرسول صلى الله عليه وسلم من المخاصمة عن الخائنين ، فإن المخاصمة عن المبطل من الضلال ، فإن الضلال نوعان :
ضلال في العلم ، وهو الجهل بالحق . وضلال في العمل ، وهو العمل بغير ما يجب . فحفظ الله رسوله عن هذا النوع من الضلال [ كما حفظه عن الضلال في الأعمال ]{[231]}
وأخبر أن كيدهم ومكرهم يعود على أنفسهم ، كحالة كل ماكر ، فقال : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ } لكون ذلك المكر وذلك التحيل لم يحصل لهم{[232]} فيه مقصودهم ، ولم يحصل لهم إلا الخيبة والحرمان والإثم والخسران . وهذه{[233]} نعمة كبيرة على رسوله صلى الله عليه وسلم تتضمن النعمة بالعمل ، وهو التوفيق لفعل ما يجب ، والعصمة له عن كل محرم .
ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال : { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : أنزل عليك هذا القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل شيء وعلم الأولين والآخِرين .
والحكمة : إما السُّنَّة التي قد قال فيها بعض السلف : إن السُّنَّة تنزل عليه كما ينزل القرآن .
وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها ، وتنزيل الأشياء منازلها وترتيب كل شيء بحسبه .
{ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى . فإنه صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله قبل النبوة بقوله : { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى }
ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقاما من العلم يتعذر وصوله على الأولين والآخرين ، فكان أعلم الخلق على الإطلاق ، وأجمعهم لصفات الكمال ، وأكملهم فيها ، ولهذا قال : { وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من فضله على كل مخلوق{[234]}
وأجناس الفضل الذي قد فضله الله به لا يمكن استقصاؤها{[235]} ولا يتيسر إحصاؤها{[236]}
ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } .
أى : ولولا فضل الله عليك ورحمته بك - يا محمد - بأن وهبك النبوة ، وعصمك من كيد الناس وأذاهم ، وأحاطك علما بما يبيتونه من سوء لولا ذلك { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } أى : من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم وهم طعمة وأشياعه الذين دافعوا عنه ، ومن كان على شاكلتهم فى النفاق والجدال بالباطل { أَن يُضِلُّوكَ } أى : لهمت طائفة من هؤلاء الذين فى قلوبهم مرض أن يضلوك عن القضاء بالحق بين الناس ، ولكن الله - تعالى - حال بينهم وبين هذا الهم بإشعارهم بأن ما يفعلونه معك من سوء سكشفه الله لك عن طريق الوحى .
وقوله { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } أى : أنهم بمحاولتهم إخفاءالحق والدفاع عن الخائن ، وتعاونهم على الإِثم والعدوان ، ما يضلون إلا أنفسهم ، لأن سوء عاقبة ذلك ستعود عليهم وحدهم ، أما أنت يا محمد فقد عصمك الله من شرورهم ، وحماك من كل انحراف عن الحق والعدل .
وقوله { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } معطوف على ما قبله . أى هم بمحاولتهم إخفاء الحق ما يضرونك بأى قدر من الضر . لأنك إنما قضيت بينهم بما هو الظاهر من أحوالهم ، وهو الذى تحكم بمقتضاه ، أما الأمور الخفية التى تخالف الحق فمرجع علمه إلى الله وحده .
{ مِن } فى قوله { مِن شَيْءٍ } زائدة لتأكيد النفى . وشئ أصله النصب على أنه مفعول مطلق لقوله { يَضُرُّونَكَ } . أى : وما يضرونك شيئا من الضرر وقد جر لأجل حرف الجر الزائد .
وقوله { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } معطوف على قوله { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } لزيادة التقري ، ولزيادة بيان ما وهبه الله- تعالى - لنبيه من خير ورعاية وعصمة أى : أن الله - تعالى - قد امتن عليك يا محمد بأن أنزل عليك القرآن الذى يهدى للتى هى أقوم ، وأنزل عليك الحكمة أى العلم النافع الذى يجعلك تصيب الحق فى قولك وعملك { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } من أخبار الأولين والآخرين ، ومن خفيات الأمور ، ومن أمور الدين والشرائع .
{ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } أى وكان فضل الله عليك عظيما عظماً لا تحده عبارة ، ولا تحيط به إشارة .
فالآية الكريمة فهيا ما فيها من التنويه بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مظاهر فضل اللهع ليه ورحمته به .
وبعد فإن المتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، ليراها تهدى الناس إلى ما يسعدهم فى كل زمان ومكان متى اتبعوا توجيهاتها وإرشاداتها .
إنها تأمرهم فى شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يتلزموا الحق فى كل أقوالهم وأعمالهم ، حتى ولو كان الذى عليه الحق من أقرب الناس إليهم ، وكان الذى له الحق من أعدى أعدائهم ، وتنهاهم عن الدفاع عن الخائنين الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، وتبين لهم أن دفاعهم عنهم لن يفيده أمام الله - تعالى - .
ثم تفتح للعصاة باب التوبة لكى يفيئوا إلى رشدهم ويعودوا إلى طاعة ربهم وتخبرهم أن شؤم المعصية سيعود إليهم وحدهم . . وتنبههم إلى أن من أشد الذنوب عند الله - تعالى - أن يفعل الشخص فاحشة ثم يقذف بها غيره .
ثم تسوق الآيات فى ختامها جانبا من فضل الله على نبيه ورحمته به ، لكى يزداد ثباتا واطمئنانا . ويزداد أعداؤه خوفا وضعفا واضطرابا .
وهكذا نرى الآيات الكريمة تهدى الناس إلى الحق الذى لا يميل مع الهوى ، ولا مع العصبية . ولا يتأرجح مع الحب أو البغض حتى ولو كان الذى عليه الحق ممن يظهرون الإِسلام ويعاملون معاملة المسلمين ، وكان الذى له الحق من اليهود الذين لم يتركوا مسلكا لمحاربة الدعوة الإِسلامية إلا سلكوه والذين يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ومع ذلك أنكروه وحاربوه .
فهل رأيت - أخى القارئ - عدالة تقترب من هذه العدالة فى سموها ونقائها واستقامة منهجها ؟
إن هذه الآيات لتشهد بأن هذا القرآن من عند الله ، لأن البشر مهما استقامت طبائعهم ، فإنهم ليس فى استطاتهم أن يصلوا إلى هذا المستوى الرفيع الذى تشير إليه الآيات ، والذى يكشف لكل عاقل أن هذا القرآن من عند الله { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً }
وأخيرا يمن الله على رسوله [ ص ] أن عصمه من الانسياق وراء المتأمرين المبيتين ؛ فأطلعه على مؤامراتهم التي يستخفون بها من الناس ولا يستخفون بها من الله - وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول - ثم يمتن عليه المنة الكبرى في إنزال الكتاب والحكمة وتعليمه ما لم يكن يعلم . . وهي المنة على البشرية كلها ، ممثلة ابتداء في شخص أكرمها على الله وأقربها لله :
( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك . وما يضلون إلا أنفسهم . وما يضرونك من شيء . وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة . وعلمك ما لم تكن تعلم . وكان فضل الله عليك عظيمًا ) .
إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة ، شتى الألوان والأنواع ؛ مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب . ولكن الله - سبحانه - كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة . وكان الكائدون المتأمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة . . وسيرة رسول الله [ ص ] حافلة بتلك المحاولات ؛ ونجاته وهدايته ؛ وضلال المتأمرين وخيبتهم .
والله - سبحانه - يمتن عليه بفضله ورحمته هذه ؛ ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئا . بفضل من الله ورحمة .
وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة ؛ وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم برىء وتبرئة جارم ، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة . . تجى ء المنة الكبرى . . منة الرسالة :
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم . وكان فضل الله عليك عظيمًا .
وهي منة الله على " الإنسان " في هذه الأرض . المنة التي ولد الإنسان معها ميلادا جديدا . ونشأ بها " الإنسان " كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى . .
المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية ، لترقى بها في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة . عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب . .
المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية - جاهلية الغابر والحاضر - وذاق الإسلام وذاق الجاهلية . .
وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله [ ص ] فلأنه هو أول من عرفها وذاقها . وأكبر من عرفها وذاقها . وأعرف من عرفها وذاقها . .
قوله : { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك } عطف على { ولا تكن للخائنين خصيماً } [ النساء : 105 ] .
والمراد بالفضل والرحمة هنا نِعمة إنزال الكتاب تفصيلا لوجوه الحقّ في الحكم وعصمته من الوقوع في الخطأ فيه . وظاهر الآية أنّ هَمّ طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يُضلّون الرسول غيرُ واقع من أصله فضلا عن أن يضلّوه بالفعل . ومعنى ذلك أنّ علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس ، مؤمنهم وكافرهم ، أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أمين فلا يسعهم إلاّ حكاية الصدق عنده ، وأنّ بني ظَفَر لما اشتكوا إليه من صنيع قتادة بن النعمان وعمّه كانوا يظنّون أنّ أصحابهم بني أبيرق على الحقّ ، أوْ أنّ بني أبيرق لمّا شكوا إلى رسول الله بما صنعه قتادة كانوا موجسِين خِيفة أن يُطلع الله رسوله على جليّة الأمر ، فكان ما حاولوه من تضليل الرسول طمعاً لا هَمّا ، لأنّ الهمّ هو العزم على الفعل والثقة به ، وإنّما كان انتفاءُ همّهم تضليلَه فضلاً ورحمة ، لدلالته على وقاره في نفوس الناس ، وذلك فضل عظيم .
وقيل في تفسير هذا الانتفاء : إنّ المراد انتفاء أثره ، أي لولا فضل الله لضلِلْت بهمّهم أن يُضلّوك ، ولكن الله عصمك عن الضلال ، فيكون كناية . وفي هذا التفسير بُعد من جانب نظم الكلام ومن جانب المعنى .
ومعنى : { وما يضلون إلا أنفسهم } أنّهم لو همُّوا بذلك لكان الضلال لاحقاً بهم دونك ، أي يكونون قد حاولوا ترويج الباطل واستغفال الرسول ، فحقّ عليهم الضلال بذلك ، ثم لا يجدونك مصغِيا لضلالهم ، و { من } زائدة لتأكيد النفي . و { شيء } أصله النَّصب على أنّه مفعول مطلق لقوله { يضرّونك } أي شيئاً من الضرّ ، وجُرّ لأجل حرف الجرّ الزائد .
وجملة : { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } عطف على { وما يضرونك من شيء } . وموقعها لزيادة تقرير معنى قوله : { ولولا فضل الله عليك ورحمته } ولذلك ختمها بقوله : { وكان فضل الله عليك عظيماً } ، فهو مثل ردّ العجز على الصدر . والكتاب : والقرآن . والحكمة : النبوءة . وتعليمه ما لم يكن يعلم هو ما زاد على ما في الكتاب من العلم الوارد في السنّة والإنباء بالمغيّباتِ .