{ قتل أصحاب الأخدود } أي : لعن ، و{ الأخدود } الشق المستطيل في الأرض كالنهر ، وجمعه : أخاديد واختلفوا فيهم .
أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد ابن أبي عبد الله بن سعدان الخطيب ، أخبرني أبو أحمد محمد بن أحمد بن محمد بن قريش بن نوح بن رستم ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي ، حدثنا هدية بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر ، فلما كبر قال : إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاماً يعلمه ، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب ، وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه ، وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه ، فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال : اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر ؟ فأخذ حجراً ثم قال اللهم : إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها ، فمضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره ، فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فاصبر فلا تدل علي ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك وكان قد عمي ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : ما هذا ؟ قال : هذا لك أجمع إن أنت شفيتني ، قال : إني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله ، فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك ، فآمن بالله فشفاه الله ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي عز وجل ، قال أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام ، فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ به الأكمه والأبرص وتفعل كذا ، وتفعل كذا ، قال : إني لا أشفى أحداً إنما يشفي الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل : ارجع عن دينك ، فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا كذا فاصعدوا به فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل ، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا ، فجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم ، في كبد قوسه ، ثم قال : بسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوقع يده على صدغه في موضع السهم ، فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ثلاثاً فأتي الملك ، فقيل له : رأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود بأفواه السكك ، فخدت وأضرم بها النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم ، قال : ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أماه اصبري فإنك على الحق " . هذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج عن هدية بن خالد عن حماد بن سلمة . وذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : أن رجلاً كان قد بقي على دين عيسى فوقع إلى أهل نجران فدعاهم فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير وخيرهم بين النار واليهودية ، فأبوا عليه فخد الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفاً ، ثم لما غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هارباً فاقتحم البحر بفرسه فغرق ، قال الكلبي : وذو نواس قتل عبد الله بن التامر . وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر : أن خربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب فوجدوا عبد الله بن التامر واضعاً يده على ضربة في رأسه إذا أميطت يده عنها انبعثت دماً وإذا تركت ارتدت مكانها ، وفي يده خاتم من حديد فيه مكتوب : ربي الله ، فبلغ ذلك عمر فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه . وروى عطاء عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال : كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له : يوسف ذو نواس بن شرحبيل بن شرحيل في الفترة قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة ، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر ، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بداً من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت ، فأعجبه ذلك ، وذكر قريباً من معنى حديث صهيب إلى أن قال الغلام للملك : إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول لك ، قال : فكيف أقتلك ؟ قال : تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم باسم إلهي ، ففعل الملك ذلك فقتله ، فقال الناس : لا إله إلا الله ، إله عبد الله بن تامر لا دين إلا دينه ، فغضب الملك وأغلق باب المدينة وأخذ أفواه السكك وخد أخدوداً وملأه ناراً ثم عرضهم رجلاً رجلاً فمن رجع عن الإسلام تركه ، ومن قال : ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود فأحرقه ، وكان في مملكته امرأة أسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاث أحدهم رضيع ، فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار ، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ، ثم قال لها : ارجعي عن دينك ، فأبت فألقى الثاني في النار ، ثم قال لها : ارجعي ، فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع ، فقال الصبي : يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق ، ولا بأس عليك ، فألقي الصبي في النار ، وألقيت أمه على أثره . وقال سعيد بن جبير وابن أبزى : لما انهزم أهل اسفنديار قال عمر بن الخطاب : أي شيء يجري على المجوس من الأحكام فإنهم ليسوا بأهل كتاب ؟ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : بلى قد كان لهم كتاب ، وكانت الخمر أحلت لهم فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله ، فتناول أخته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم ، وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت ، وما المخرج منه قالت : المخرج منه أن تخطب الناس ، وتقول : إن الله قد أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته ، فقام خطيباً فقال : إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات ، فقال الناس بأجمعهم : معاذ الله أن نؤمن بهذا ، أو نقر به ، ما جاءنا به نبي ولا أنزل علينا فيه كتاب ، فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا فجرد فيهم السيف . فأبوا أن يقروا فخد لهم أخدوداً وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها فمن أبى ولم يطعه قذفه في النار ومن أجاب خلى سبيله . وقال الضحاك : أصحاب الأخدود من بني إسرائيل ، أخذوا رجالاً ونساء فخدوا لهم أخدوداً ثم أوقدوا فيه النيران فأقاموا المؤمنين عليها ، فقالوا : أتكفرون أم نقذفكم في النار ؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه . وهذه رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقال أبو الطفيل عن علي رضي الله عنه : كان أصحاب الأحدود نبيهم حبشي ، بعث نبي من الحبشة إلى قومه ، ثم قرأ علي رضي الله عنه : { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك }( غافر-78 ) فدعاهم فتابعه أناس فقاتلهم أصحابه وأخذوا وأوثق ما أفلت منهم فخدوا أخدوداً فملؤها ناراً فمن اتبع النبي رمي فيها ، ومن تابعهم تركوه ، فجاؤوا بامرأة ومعها صبي رضيع فجزعت ، فقال الصبي : يا أماه مري ولا تنافقي . وقال عكرمة : كانوا من النبط أحرقوا بالنار . وقال مقاتل : كانت الأخدود ثلاثة : واحدة بنجران باليمن ، وواحدة بالشام ، والأخرى بفارس ، أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي ، وأما التي بفارس فبختنصر ، وأما التي بأرض العرب فهو ذو نواس يوسف ، فأما التي بالشام وفارس فلم ينزل الله فيهما قرآناً وأنزل في التي كانت بنجران ، وذلك أن رجلاً مسلماً ممن يقرأ الإنجيل آجر نفسه في عمل ، وجعل يقرأ الإنجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل ، فذكرت ذلك لأبيها فرمقه حتى رآه فسأله فلم يخبره ، فلم يزل به حتى أخبره بالدين والإسلام ، فتابعه هو وسبعة وثمانون إنساناً من بين رجل وامرأة وهذا بعد ما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخد لهم في الأرض وأوقد فيها ناراً فعرضهم على الكفر ، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه ، وإن امرأة جاءت ومعها ولد صغير لا يتكلم ، فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار ، فضربت حتى تقدمت فلم تزل كذلك ثلاث مرات ، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها : يا أماه إني أرى أمامك ناراً لا تطفأ ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعاً أنفسهما في النار ، فجعلها الله وابنها في الجنة ، فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً ، فذلك قوله عز وجل : { قتل أصحاب الأخدود } .
وقيل : إن المقسم عليه قوله { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ } وهذا دعاء عليهم بالهلاك .
و { الأخدود } الحفر التي تحفر في الأرض .
وكان أصحاب الأخدود هؤلاء قومًا كافرين ، ولديهم قوم مؤمنون ، فراودوهم للدخول{[1394]} في دينهم ، فامتنع المؤمنون من ذلك ، فشق الكافرون أخدودًا [ في الأرض ] ، وقذفوا فيها النار ، وقعدوا حولها ، وفتنوا المؤمنين ، وعرضوهم عليها ، فمن استجاب لهم أطلقوه ، ومن استمر على الإيمان قذفوه في النار ، وهذا في غاية المحاربة لله ولحزبه المؤمنين ، ولهذا لعنهم الله وأهلكهم وتوعدهم فقال : { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ }
وقوله - تعالى - { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } جواب القسم بتقدير اللام وقد .
أى : وحق السماء ذات البروج ، وحق اليوم الموعود ، وحق الشاهد والمشهود ، لقد قتل ولعن أصحاب الأخدود ، وطردوا من رحمة الله بسبب كفرهم وبغيهم .
والأخدود : وهو الحفرة العظيمة المستطيلة فى الأرض ، كالخندق ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخد لمجارى الدمع ، والمخدة : لأن الخد يوضع عليها .
ويقال : تخدد وجه الرجل ، إذا صارت فيه التجاعيد . . ومنه قول الشاعر :
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها . . . عليه ، نقى اللون لم يتخدد
وقيل : إن جواب القسم محذوف ، دل عليه قوله - تعالى - : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة لملعونون كما لعن أصحاب الأخدود .
وأصحاب الأخدود : هم قوم من الكفار السابقين ، حفروا حفرا مستطيلة فى الأرض ، ثم أضرموها بالنار ، ثم ألقوا فيها المؤمنين ، الذين خالفوهم فى كفرهم ، وأبوا إلا إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده .
وبعد رسم هذا الجو ، وفتح هذا المجال ، تجيء الإشارة إلى الحادث في لمسات قلائل :
( قتل أصحاب الأخدود . النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود . وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض ، والله على كل شيء شهيد ) . .
وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود : ( قتل أصحاب الأخدود ) . . وهي كلمة تدل على الغضب . غضب الله على الفعلة وفاعليها . كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم ، ونقمته ، ووعيده بالقتل لفاعليه .
وجواب القسم قيل محذوف لدلالة قوله : { قتل أصحاب الأخدود } عليه والتقدير أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود . وقيل : تقديره : أن الأمر لحق في الجزاء على الأعمال : أو لتبعثن .
وقيل : الجواب مذكور فيما يلي فقال الزجاج : هو { إن بطش ربك لشديد } [ البروج : 12 ] ( أي والكلام الذي بينهما اعتراض قصد به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد التحقيق الذي أفاده القسم بتحقيق ذكر النظير ) . وقال الفراء : الجواب : { قُتل أصحاب الأخدود } ( أي فيكون قُتِلَ خَبَراً لادعاء وَلا شتماً ولا يلزم ذكر ( قد ) في الجواب مع كون الجواب ماضياً لأن ( قد ) تحذف بناء على أن حذفها ليس مشروطاً بالضرورة ) .
ويتعين على قول الفراء أن يكون الخبر مستعملاً في لازم معناه من الإِنذار للذين يَفتنون المؤمنين بأن يحلّ بهم ما حلّ بفاتني أصحاب الأخدود ، وإلا فإن الخبر عن أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب .
وانتساق ضمائر جمع الغائب المرفوعة من قوله : { إذ هم عليها قعود } إلى قوله : { وما نقموا } يقتضي أن يكون أصحاب الأخدود وَاضعيه لتعذيب المؤمنين .
وقيل : الجواب هو جملة : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] فيكون الكلام الذي بينهما اعتراضاً وتوطئة على نحو ما قررناه في كلام الزجاج .
وقوله : { قتل أصحاب الأخدود } صيغته تشعر بأنه إنشاء شتم لهم شتم خزي وغضب وهؤلاء لم يُقتلوا ففعل قُتِل ليس بخبر بل شتم نحو قوله تعالى : { قُتل الخرّاصون } [ الذاريات : 10 ] . وقولهم قاتله الله ، وصدوره من الله يفيد معنى اللعن ويدل على الوعيد لأن الغضب واللعن يستلزمان العقاب على الفعل الملعون لأجله .
وقيل : هو دعاء على أصحاب الأخدود بالقتل كقوله تعالى : { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] والقَتل مستعار لأشد العذاب كما يقال : أهلكه الله ، أي أوقعه في أشد العناء ، وأيَّاً مَّا كان فجملة { قتل أصحاب الأخدود } على هذا معترضة بين القسم وما بعده .
ومَن جَعل { قتل أصحاب الأخدود } جواب القسم جعل الكلام خبراً وقدَّره لقد قتل أصحاب الأخدود ، فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين أُلقوا فيه وعُذبوا به ويكون لفظ أصحاب مستعملاً في معنى مجرد المقارنة والملازمة كقوله تعالى : { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 39 ] وقد علمتَ آنفاً تَعيُّن تأويل هذا القول بأن الخبر مستعمل في لازم معناه .
ولفظ { أصحاب } يُعمّ الآمرين بجعل الأخدود والمباشرين لِحفره وتسعيره ، والقائمين على إلقاء المؤمنين فيه .
وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية .
والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبَعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات ، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات ، وذُكرتْ فيها روايات متقاربة تختلف بالإِجمال والتفصيل ، والترتيب ، والزيادة ، والتعيين وأصحّها ما رواه مسلم والترمذي عن صُهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قصَّ هذه القصة على أصحابه . وليس فيما رُوي تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقها تفسيراً لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج .
وعن مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد بنجران ، وبالشام ، وبفارس ، أما الذي بالشام ف ( انطانيوس ) الرومي وأما الذي بفارس فهو ( بختنصر ) والذي بنجران فيوسف ذو نواس ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من « سيرة ابن إسحاق » على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن ، وأنه كان مَلِكٌ وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر . وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يَجِد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السّلام ويقرأ الإنجيل اسمه ( فَيْمِيُون ) بفاء ، فتحتية ، فميم ، فتحتية ( وضبط في الطبعة الأوروبية من « سيرة ابن إسحاق » التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح ، بفتح فسكون فكسر فضم ) قال السهيلي : ووقع للطبري بقاف عوض الفاء .
وقد يحرف فيقال ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة ، أصله من غسان من الشام ثم سَاح فاستقر بنجران ، وكان منعزلاً عن الناس مختفياً في صومعته وظهرت لعبد الله في قومه كرامات . وكان كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرتْ لهم إلى أن يتبعوا النصرانية ، فكثر المتنصرون في نجران وبلغ ذلك المَلكَ ذا نُواس وكان يهودياً وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة ، فقتل الملك الغلامَ وقَتَل الراهب وأمر بأخاديد وجُمع فيها حَطب وأُشعلت ، وعُرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار .
فكان أصحاب الأخدود ممن عُذِّب من أهلِ دين المسيحية في بلاد العرب . وقِصص الأخاديد كثيرة في التاريخ ، والتعذيب بالحرق طريقة قديمة ، ومنها : نار إبراهيم عليه السلام . وأما تحريق عَمرو بن هند مائةً من بني تميم وتلقيبُه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود . وقال ابن عطية : رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو مُحرق وآله الذي حَرق من بني تميم مائةً .
و{ الأخدود } : بوزن أُفعول وهو صيغة قليلة الدوران غيرُ مقيسة ، ومنها قولهم : أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجةُ إذا بحثت في التراب موضعاً تَبيض فيه ، وقولُهم أسلوب اسم لطريقة ، ولسطر النّخل ، وأقنوم اسم لأصل الشيء . وقد يكون هذا الوزن مع هاء تأنيث مثل أكرومة ، وأعجوبة ، وأُطروحة وأضحوكة .