الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ} (4)

فإن قلت : أين جواب القسم ؟ قلت : محذوف يدل عليه قوله : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون ، يعني كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود ؛ وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدّمهم : من التعذيب على الإيمان . وإلحاق أنواع الأذى ، وصبرهم وثباتهم ، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرّقين بالنار ، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم : قتلت قريش ، كما قيل : قتل أصحاب الأخدود وقتل : دعاء عليهم ، كقوله : { قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] وقرىء «قتل » بالتشديد . والأخدود : الخدّ في الأرض وهو الشق ، ونحوهما بناء ومعنى : الخق والأخقوق . ومنه فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضمّ إليه غلاماً ليعلمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهب : فسمع منه ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس . فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها فقتلها ؛ وكان الغلام بعد ذلك يبريء الأكمه والأبرص ، ويشفي من الأدواء ، وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله فقال : من ردّ عليك بصرك ؟ فقال : ربي ، فغضب فعذبه . فدل على الغلام فعذبه ، فدل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه ، فقدّ بالمنشار وأبي الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته ، فدعا فرجف بالقوم ، فطاحوا ونجا ، فذهب به إلى قرقور فلججوا به ليغرقوه ، فدعا فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ونجا ، فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول : بسم الله رب الغلام ، ثم ترميني به ، فرماه فرقع في صدغه فوضع يده عليه ومات ؛ فقال الناس : أمنا برب الغلام ؛ فقيل للملك . نزل بك ما كنت تحذر ؛ فأمر بأخاديد في أفواه السكك وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الصبي : يا أماه ، أصبري فإنك على الحق ؛ فاقتحمت . وقيل : قال لها قعى ولا تنافقي . وقيل : قال لها ما هي إلا غميضة فصبرت " وعن علي رضي الله عنه : أنهم حين اختفلوا في أحكام المجوس قال : هم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناولها بعض ملوكهم فسكر ، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج ، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : يا أيها الناس ، إنّ الله قد أحل نكاح الأخوات ، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : إن الله حرّمه ؛ فخطب فلم يقبلوا منه فقالت له : ابسط فيهم السوط ؛ فلم يقبلوا ؛ فقالت له : ابسط فيهم السيف ، فلم يقبلوا ؛ فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها ؛ فهم الذين أرادهم الله بقوله : { قُتِلَ أصحاب الاخدود ( 44 ) } وقيل : وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام ، فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير ، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا ، فأحرق منهم اثني عشر ألفاً في الأخاديد .

وقيل : سبعين ألفاً ؛ وذكر أنّ طول الأخدود : أربعون ذراعاً وعرضه اثنا عشر ذراعاً . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوّذ من جهد البلاء " .