مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ} (4)

قوله تعالى : { قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود }

اعلم أنه لابد للقسم من جواب ، واختلفوا فيه على وجوه ( أحدها ) : ما ذكره الأخفش وهو أن جواب القسم قوله : { قتل أصحاب الأخدود } واللام مضمرة فيه ، كما قال : { والشمس وضحاها } { قد أفلح من زكاها } يريد . لقد أفلح ، قال : وإن شئت على التقديم كأنه قيل : قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج ( وثانيها ) : ما ذكره الزجاج ، وهو أن جواب القسم : { إن بطش ربك لشديد } وهو قول ابن مسعود وقتادة ( وثالثها ) : أن جواب القسم قوله : { إن الذين فتنوا } الآية كما تقول : والله إن زيدا لقائم ، إلا أنه اعترض بين القسم وجوابه ، قوله : { قتل أصحاب الأخدود } إلى قوله : { إن الذين فتنوا } ( ورابعها ) : ما ذكره جماعة من المتقدمين أن جواب القسم محذوف ، وهذا اختيار صاحب «الكشاف » إلا أن المتقدمين ، قالوا : ذلك المحذوف هو أن الأمر حق في الجزاء على الأعمال وقال صاحب «الكشاف » : جواب القسم هو الذي يدل عليه قوله : { قتل أصحاب الأخدود } كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء ، أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود ، وذلك لأن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ، ويعلموا أن كفار مكة عند الله بمنزلة أولئك الذين كانوا في الأمم السالفة يحرقون أهل الإيمان بالنار ، وأحقاء بأن يقال فيهم : قتلت قريش كما : { قتل أصحاب الأخدود } أما قوله تعالى : { قتل أصحاب الأخدود } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : ذكروا قصة أصحاب الأخدود على طرق متباينة ونحن نذكر منها ثلاثة :

أحدها : أنه كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضم إليه غلام ليعلمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهب ، فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجرا ، وقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتلها بواسطة رمي الحجر إليها ، ثم رمى فقتلها ، فصار ذلك سببا لإعراض الغلام عن السحر واشتغاله بطريقة الراهب ، ثم صار إلى حيث يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء ، فاتفق أن عمي جليس للملك فأبرأه فلما رآه الملك قال : من رد عليك نظرك ؟ فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه فدل على الراهب فأحضر الراهب وزجره عن دينه فلم يقبل الراهب قوله فقد بالمنشار ، ثم أتوا بالغلام إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا الله ، فرجف بالقوم فهلكوا ونجا ، فذهبوا به إلى سفينة لججوا بها ليغرقوه ، فدعا الله فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا ، فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي ، وتقول : بسم الله رب الغلام ثم ترميني به ، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام .

فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك ، وأوقدت فيها النيران ، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها ، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق ، فصبرت على ذلك .

الرواية الثانية : روي عن علي عليه السلام أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال : هم أهل الكتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها بعض ملوكها فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : إن الله تعالى قد أحل نكاح الأخوات ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : بعد ذلك حرمه ، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك فقالت له : أبسط فيهم السوط فلم يقبلوا ، فقالت : أبسط فيهم السيف فلم يقبلوا ، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أتى فيها الذين أرادهم الله بقوله : { قتل أصحاب الأخدود } .

الرواية الثالثة : أنه وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فصار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا ، فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد ، وقيل سبعين ألفا ، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر ذراعا ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء » فإن قيل : تعارض هذه الروايات يدل على كذبها ، قلنا : لا تعارض فقيل : إن هذا كان في ثلاث طوائف ثلاث مرات مرة باليمن ، ومرة بالعراق ، ومرة بالشام ، ولفظ الأخدود ، وإن كان واحدا إلا أن المراد هو الجمع وهو كثير من القرآن ، وقال القفال : ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مختلفة وليس في شيء منها ما يصح إلا أنها متفقة في أنهم قوم من المؤمنين خالفوا قومهم أو ملكا كافرا كان حاكما عليهم فألقاهم في أخدود وحفر لهم ، ثم قال : وأظن أن تلك الواقعة كانت مشهورة عند قريش فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسوله تنبيها لهم على ما يلزمهم من الصبر على دينهم واحتمال المكاره فيه فقد كان مشركوا قريش يؤذون المؤمنين على حسب ما اشتهرت به الأخبار من مبالغتهم في إذاء عمار وبلال .

المسألة الثانية : الأخدود : الشق في الأرض يحفر مستطيلا وجمعه الأخاديد ومصدره الخد وهو الشق يقال : خد في الأرض خدا وتخدد لحمه إذا صار طرائق كالشقوق .

المسألة الثالثة : يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين ، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين ، والرواية المشهورة أن المقتولين هم المؤمنون ، وروي أيضا أن المقتولين هم الجبابرة لأنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم ونجى الله المؤمنين منها سالمين ، وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواقدي وتأولوا قوله :

{ فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } أي لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا . إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ذكروا في تفسير قوله تعالى : { قتل أصحاب الأخدود } وجوها ثلاثة وذلك لأنا إما أن نفسر أصحاب الأخدود بالقاتلين أو بالمقتولين . أما على الوجه الأول ففيه تفسيران ( أحدهما ) : أن يكون هذا دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود ، ونظيره قوله تعالى : { قتل الإنسان ما أكفره } { قتل الخراصون } ( والثاني ) : أن يكون المراد أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على ما ذكرنا أن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم ، وأما إذا فسرنا ، أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن أولئك المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار ، فيكون ذلك خبرا لا دعاء .

المسألة الرابعة : قرئ قتل بالتشديد .