اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ} (4)

قوله تعالى : { قُتِلَ } . هذا جواب القسم على المختار ، وإنما حذفت اللام ، والأصل : «لقتل » ؛ كقوله : [ الطويل ]

5153- حَلفْتُ لَهَا باللهِ حَلفَة فَاجرٍ*** لنَامُوا فمَا إنْ مِنْ حَديثٍ ولا صَالِي{[59758]}

وإنما حسُن حذفها للطول كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] .

وقيل : تقديره ، لقد قتل ، فحذف «اللام وقد » ، وعلى هذا فقوله «قُتِلَ » خبر ، لا دعاء .

وقيل : هي دعاءٌ ، فلا يكون جواباً .

وفي الجواب حينئذ أوجه :

أحدها : أنه قوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } [ البروج : 10 ] .

الثاني : قوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] قاله المبرد .

الثالث : أنه مقدر ، فقال الزمخشري ولم يذكر غيره{[59759]} : هو محذوف يدل عليه قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } كأنَّه قيل : أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون ، كما لعن أصحاب الأخدود ثم قال : «قُتِلَ » دعاءٌ عليهم كقوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] .

وقيل : التقدير : لتبعثن .

وقيل : فيه تقديم وتأخير ، قتل أصحاب الأخدود والسَّماء ذات البروج ، قاله أبو حاتم .

قال ابن الأنباري : وهذا غلط ؛ لأنه لا يجوز لقائل أن يقول : والله قام زيد ، على معنى : قام زيد والله .

وقرأ الحسن{[59760]} وابن مقسم : «قُتِّل » بتشديد التاء مبالغة أو تكثيراً .

قوله : { أَصْحَابُ الأخدود } ، أي : لعن أصحاب الأخدود .

قال ابن عباس : كل شيء في القرآن «قُتِلَ » فهو : لُعِنَ ، والأخدود الشقُّ العظيم المستطيل الغائص في الأرض{[59761]} .

قال الزمخشريُّ{[59762]} : والأخدود : الخدُّ في الأرض وهو : الشق ، ونحوهما بناء ومعنى : الخق والأخقوق ، ومنه : «فَسَاخَتْ قوائمه في أخاقيق جرذان » انتهى .

فالخَدُّ : في الأصل مصدر ، وقد يقع على المفعول ، وهو الشق نفسه ، وأمَّا الأخدود فاسم له فقط .

وقال الراغب : الخد والأخدود : شق في الأرض مستطيل غائص ، وأصل ذلك من خَدَّي الإنسان ، وهما ما اكتنفا الأنف عن اليمين والشمال ، فالخَدُّ : يستعار للأرض ونحوها كاستعارة الوجه ، وتخدد اللحم بزواله عن وجه الجسم ، ثم يعبر بالمخدود عن المهزول والخداد : وسم في الخد .

وقال غيره : سمي الخدُّ خدَّا ؛ لأن الدموع تخُد فيه أخاديدَ ، أي : مجاري ، وجمع الأخدود : أخاديد ، والمخدَّة ؛ لأن الخد يوضع عليها ، ويقال : تخدَّد وجه [ الرجل ]{[59763]} إذا صارت فيه أخاديد من جراحٍ .

فصل في المراد بأصحاب الأخدود

قال ابن الخطيب{[59764]} : يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود : القاتلين ، ويمكن أن يكون المراد بهم : المقتولين ، والمشهور أنَّ المقتولين هم : المؤمنون .

وروي أن المقتولين هم الجبابرة ، روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفَّار فأحرقتهم ، ونجَّى الله - تعالى - المؤمنين منها سالمين ، وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنسٍ ، والواحدي ، وتأولوا قوله تعالى : { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } [ البروج : 10 ] أي : في الآخرة ، { وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } [ البروج : 10 ] في الدنيا ، فإن فسَّرنا أصحاب الأخدود بالقاتلين ، فيكون قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } دعاءٌ عليهم أي : لعن أصحاب الأخدود كقوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] ، { قُتِلَ الخراصون } [ الذاريات : 10 ] .

أو يكون المعنى : قتلوا بالنار كما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم .

وإن فسَّرنا أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار ، فيكون ذلك خبراً لا دعاء .

فصل في المقصود من هذه الآية

المقصود من هذه الآية : تثبيت قلوب المؤمنين بإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد ، وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار ، ليتأسَّوا بهذا الغلام في صده على الأذى والصلب وبذله نفسه في إظهار دعوته ، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه ، وكذلك صبر الراهب على التمسُّك بالحق حتى نشر بالمنشار ، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى .


[59758]:تقدم.
[59759]:ينظر: الكشاف 4/729.
[59760]:ينظر: البحر المحيط 8/443، والدر المصون 6/502.
[59761]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/88).
[59762]:ينظر: الكشاف 4/730.
[59763]:في ب: الأرض.
[59764]:ينظر: الفخر الرازي 31/108.