فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ} (4)

{ قتل أصحاب الأخدود } هذا جواب القسم واللام فيه مضمرة وهو الظاهر ، وبه قال الفراء وغيره وقيل تقديره لقد قتل فحذفت اللام وقد ، وعلى هذا تكون الجملة خبرية والظاهر أنها دعائية لأن معنى قتل لعن ، قال الواحدي : في قول الجميع والدعائية لا تكون جوابا للقسم فقيل الجواب قوله { إن الذين فتنوا المؤمنين } وقيل قوله { إن بطش ربك لشديد } وبه قال المبرد واعترض عليه بطول الفصل .

وقيل هو مقدر يدل عليه قوله قتل أصحاب الأخدود كأنه قال أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود ، فإن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم .

وقيل تقدير الجواب أن الأمر حق في الجزاء ، وقيل تقدير الجواب لتبعثن ، واختاره ابن الأنباري .

وقال أبو حاتم السجستاني وابن الأنباري أيضا في الكلام تقديم وتأخير أي { قتل أصحاب الأخدود } { والسماء ذات البروج } واعترض عليه بأنه لا يجوز أن يقال والله قام زيد .

وعن ابن مسعود قال : { والسماء ذات البروج } إلى قوله { شاهد ومشهود } هذا قسم على { أن بطش ربك لشديد } إلى آخرها ، والأخدود جمع خد وهو الحق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق وجمعه أخاديد ومنه الخد لمجاري الدموع والمخدة لأن الخد يوضع عليها ، ويقال تخدد وجه الرجل إذا صارت فيه أخاديد من جراح .

أخرج عبد الرازق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن انظروا لي غلاما فهما – أو قال فطنا – ألقنه فأعلمه علمي فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ، ولا يكون فيكم من يعلمه قال فنظروا له على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال إنما أعبد الله فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب ، ويبطئ عن الكاهن ، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني ، فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب إذا قال لك أين كنت فقل عند أهلي ، وإذا قال لك أهلك أين كنت فأخبرهم أني كنت عند الكاهن ، فينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة يقال أنها كانت أسدا فأخذ الغلام حجرا فقال اللهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقا فأسألك أن أقتل هذه الدابة ، وإن كان ما يقول الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها ، ثم رمى فقتل الدابة فقال الناس من قتلها قالوا الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد ، فسمع أعمى فجاءه فقال له إن أنت رددت علي بصري فلك كذا وكذا فقال الغلام لا أريد منك هذا ، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك قال نعم ، فدعا الله فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى ، ثم أمر بالغلام فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فالقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام ، ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه ، فانطلقوا به إلى البحر ، فغرّق الله الذين كانوا معه وأنجاه ، فقال الغلام للملك إنك لن تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول إذا رميتني بسم الله رب الغلام ، فأمر به فصلب ثم رماه وقال بسم الله رب الغلام فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السهم ثم مات ، فقال الناس لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد ، فإنا نؤمن برب هذا الغلام ، فقيل للملك أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك ، قال فخذ أخدودا ثم ألقي فيها الحطب والنار ، ثم جمع الناس فقال : من رجع عن دينه تركناه ، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار ، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود ، فقال يقول الله { قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود } حتى بلغ { العزيز الحميد } فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل .

ولهذه القصة ألفاظ فيها بعض اختلاف ، وقد رواها مسلم في أواخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمان بن أبي ليلى عن صهيب .

وأخرجها أحمد من طريق عفان عن حماد به .

وأخرجه النسائي عن أحمد بن سلميان عن حماد بن سلمة به .

وأخرجها الترمذي عن محمود بن غيلان وعبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن ثابت به .

وعن علي بن أبي طالب في قوله { أصحاب الأخدود } قال هم الحبشة أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم .

وعن ابن عباس " قال هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدودا في الأرض أوقدوا فيه نارا ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء فعرضوا عليها " أخرجه ابن جرير وقال مقاتل كانت الأخاديد ثلاثة واحدة بنجران باليمن وأخرى بالشام . وأخرى بفارس ، حرق أصحابها بالنار فأما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي ، وأما التي بفارس فبختنصر ، ويزعمون أنهم أصحاب دانيال ، وأما التي باليمن فذو نواس .

فأما التي بالشام وفارس فلم ينزل الله فيهم قرآنا وأنزل في التي بنجران اليمن وذلك لأن هذه القصة كانت مشهورة عند أهل مكة فذكرها الله تعالى لأصحاب رسوله يحملهم بذلك على الصبر وتحمل المكاره في الدين .