السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ} (4)

واختلف في جواب القسم فقال الجلال المحلي : جواب القسم محذوف صدره أي : لقد { قتل } أي : لعن { أصحاب الأخدود } وقال الزمخشري : محذوف ويدل عليه قوله : { قتل أصحاب الأخدود } وكأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون يعني : كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود ، فإنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم . واستظهر هذا البيضاوي . والأخدود : هو الشق المستطيل في الأرض كالنهر ، وجمعه أخاديد ، واختلف فيهم فعن صهيب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاماً ، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه ، وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب فقعد إليه ، فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع قعد إلى الراهب وسمع كلامه ، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا إلى الراهب فقال : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر ، . فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر فأخذ حجراً ثم قال : اللهمّ إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى تمضي الناس فرماها فقتلها فمضى الناس فأتى الراهب فأخبره ، فقال له الراهب : أي : بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبلى فإن ابتليت فلا تدل عليّ فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس الملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : هذا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فإن آمنت به دعوت الله تعالى فشفاك فآمن بالله فشفاه الله تعالى ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك : من ردّ عليك بصرك ؟ قال : ربي . قال : ربك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام فقال له الملك : أي : بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، قال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فجيء بالراهب فقال : ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل : له : ارجع عن دينك فأبى ففعل به كالراهب ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال : اذهبوا إلى جبل كذا فاصعدوا به ، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل ، فقال : اللهمّ اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال : اللهمّ اكفنيهم بما شئت فانكفأت السفينة بهم فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله تعالى . فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهماً من كنانته ، ووضع السهم في كبد القوس ، ثم قال : بسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات . فقال الناس : آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام ثلاثاً ، فأتى الملك فقيل : له : أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود بأفواه السكك فحدت وأضرم النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها . أو قيل له : اقتحم ، قال : ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الصبي : يا أمّاه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت » . قال البغوي : هذا حديث صحيح . وقيل : إنّ الصبي قال لها : قعي ولا تقاعسي . وقيل : ما هي إلا غميضة فصبرت . وذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أنّ رجلاً كان قد بقي على دين عيسى ، فوقع على نجران فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير ، وخيرهم بين النار واليهودية ، فأبوا عليه فخدّ الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفاً في الأخاديد . وقيل : سبعين ألفاً . ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هارباً واقتحم البحر بفرسه فغرق . قال الكلبي : وذو نواس قتل عبد الله بن التامر رضي الله عنه .

وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أن خربة احترقت في زمن عمر فوجدوا عبد الله بن التامر واضعاً يده على ضربة في رأسه ، إذا أميطت يده عنها أنبعت دماً وإذا تركت ارتدّت مكانها ، وفي يده خاتم من حديد فيه : ربي الله . فبلغ ذلك عمر فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه .

وعن ابن عباس قال : كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل في الفترة قبل أن يولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة ، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر ، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ، ولم يجد بدّاً من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم ، وكان في طريقه راهب حسن الصوت فأعجبه ذلك ، وذكر قريباً من معنى حديث صهيب إلى أن قال الغلام للملك : إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول . قال : فكيف أقتلك ؟ قال : تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي ، ففعل الملك فقتله فقال الناس : لا إله إلا إله ، عبد الله بن التامر لا دين إلا دينه ، فغضب الملك وأغلق باب المدينة ، وأخذ أفواه السكك وأخدّ أخدوداً وملأه ناراً ثم عرضهم رجلاً رجلاً ، فمن رجع عن الإسلام تركه ، ومن قال : ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه ، وكان في مملكته امرأة فأسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة : أحدهم رضيع فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار فأبت ، فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ، ثم قال لها : ارجعي فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي : يا أمّاه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق ولا بأس عليك فألقى الصبي في النار ، وألقيت أمّه على أثره .

وعن علي أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال : هم أهل كتاب ، وكانوا متمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناولها بعض ملوكهم فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج ، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : يا أيها الناس إنّ الله تعالى أحل لكم نكاح الأخوات ، ثم تخطبهم بعد ذلك : أنّ الله تعالى حرّمه . فخطب فلم يقبلوا منه فقالت : ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا ، فأمرت بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها ، فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله : { أصحاب الأخدود } وعن مقاتل : كانت الأخاديد ثلاثة : واحدة بنجران باليمن ، وأخرى بالشام ، وأخرى بفارس حرقوا بالنار ، أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي ، وأما التي بفارس فبختنصر ، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس . فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآناً ، وأنزل في التي كانت بنجران . وذلك أنّ رجلاً مسلماً ممن يقرأ الإنجيل أجر نفسه في عمل وجعل يقرأ الإنجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه فرآه فسأله فلم يخبره ، فلم يزل به حتى أخبره بالدين وبالإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنساناً ما بين رجل وامرأة ، وهذا بعد ما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخدّ لهم في الأرض ، وأوقد فيها فعرضهم على الكفر ، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار ، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه ، وأنّ امرأة جاءت ومعها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار ، فضُربت حتى تقدّمت فلم تزل كذلك ثلاث مرّات ، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها يا أمّاه إني أرى أمامك ناراً لا تُطفأ ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعاً أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة . فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً فذلك قوله تعالى : { قتل أصحاب الأخدود } .