قوله تعالى :{ وترى الجبال تحسبها جامدة } قائمة واقفة ، { وهي تمر مر السحاب } أي : تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض . فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وبعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو سائر ، كذلك سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمتها ، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه وهو سائر ، { صنع الله } نصب على المصدر ، { الذي أتقن كل شيء } يعني : أحكم ، { إنه خبير بما تفعلون } قرأ ابن كثير ، وأهل البصرة : بالياء ، والباقون بالتاء .
ومن هوله أنك { ترى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } لا تفقد [ شيئا ] منها وتظنها باقية على الحال المعهودة وهي قد بلغت منها الشدائد والأهوال كل مبلغ وقد تفتت ثم تضمحل وتكون هباء منبثا . ولهذا قال : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } من خفتها وشدة ذلك الخوف وذلك { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } فيجازيكم بأعمالكم .
وقوله - تعالى - : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب . . . } معطوف على قوله - سبحانه - قبل ذلك : { يُنفَخُ فِي الصور } .
أى : فى هذا اليوم الهائل الشديد ، يفزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله ، وترى الجبال الراسيات الشامخات ، { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أى ثابتة فى أماكنها ، والحال أنها تمر فى الجو مر السحاب ، الذى تسسيره الرياح سيرا حثيثا .
وهكذا تصور الآيات الكريمة أهوال ذلك اليوم هذا التصوير البديع المعجز المؤثر ، فالناس جميعا - إلا من شاء الله - فزعون وجلون ، والجبال كذلك كأنها قد أصابها ما أصاب الناس ، حتى لكأنها - وهى تسرع الخطا - . السحاب فى خفته ومروقه وتناثره ، ثم يعقب - سبحانه - على كل ذلك بقوله { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } .
ولفظ { صُنْعَ } يجوز أن يكون منصوبا على الإغراء أى : انظروا صنع الله - تعالى - الذى أتقن كل شىء فقد أحسن - سبحانه - ما خلقه وأحكمه ، وجعله فى أدق صورة ، وأكمل هيئة ، وصدق الله - تعالى - إذ يقول { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } قال صاحب فتح القدير : وانتصاب " صنع " على المصدرية ، أى : صنع الله ذلك صنعا . وقيل هو مصدر مؤكد لقوله : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } وقيل منصوب على الإغراء .
وجملة : { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } تعليل لما قبله . أى : صَنَع الله ما خلقه على هذا الإحكام العجيب ، والإتقان البديع ، لأنه - سبحانه - خبير بما تفعلونه ومطلع على ما تخفونه وما تعلنونه .
ويصاحب الفزع الانقلاب الكوني العام الذي تختل فيه الأفلاك ، وتضطرب دورتها . ومن مظاهر هذا الاضطراب أن تسير الجبال الراسية ، وتمر كأنها السحاب في خفته وسرعته وتناثره . ومشهد الجبال هكذا يتناسق مع ظل الفزع ، ويتجلى الفزع فيه ؛ وكأنما الجبال مذعورة مع المذعورين ، مفزوعة مع المفزوعين ، هائمة مع الهائمين الحائرين المنطلقين بلا وجهة ولا قرار !
( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) .
سبحانه ! يتجلى إتقان صنعته في كل شيء في هذا الوجود . فلا فلتة ولا مصادفة ولا ثغرة ولا نقص ، ولا تفاوت ولا نسيان . ويتدبر المتدبر كل آثار الصنعة المعجزة ، فلا يعثر على خلة واحدة متروكة بلا تقدير ولا حساب . في الصغير والكبير ، والجليل والحقير . فكل شيء بتدبير وتقدير ، يدير الرؤوس التي تتابعه وتتملاه .
وهذا يوم الحساب عما تفعلون . قدره الله الذي اتقن كل شيء . وجاء به في موعده لا يستقدم ساعة ولا يستأخر ؛ ليؤدي دوره في سنة الخلق عن حكمة وتدبير ؛ وليحقق التناسق بين العمل والجزاء في الحياتين المتصلتين المتكاملتين ، ( صنع الله الذي أتقن كل شيء . إنه خبير بما تفعلون ) .
هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النفخ في الصور ، و «الرؤية » هي بالعين{[9091]} وهذه الحال ل { الجبال } هي في أول الأمر تسير وتموج وأمر الله تعالى ينسفها ويفتها خلال ذلك فتصير كالعهن ، ثم تصير في آخر الأمد هباء منبثاً ، و «الجمود » : التصاُّم في الجوهر ، قال ابن عباس { جامدة } قائمة ، ونظيره قول الشاعر [ النابغة ] : [ الطويل ]
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم . . . وقوف لحاج والركاب تهملج{[9092]}
و { صنع الله } مصدر معرف والعامل فيه فعل مضمر من لفظه ، وقيل هو نصب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله{[9093]} ، و «الإتقان » الإحسان في المعمولات وأن تكون حساناً وثيقة القوة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يفعلون » بالياء وقرأ الباقون «تفعلون » بالتاء على الخطاب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.