معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

قوله عز وجل { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } الآية . روى الزهري ، عن عروة ابن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، يريدون زيارة البيت ، لا يريد قتالاً ، وساق معه سبعين بدنةً ، والناس سبعمائة رجل ، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر ، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة ، وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان ، أتاه عينه الخزاعي وقال : إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً ، وقد جمعوا لك الأحابيش ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس ، أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين ، وإن نجوا تكن عنقاً قطعها الله ؟ أو ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله إنما خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حرباً ، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه . فقال : امضوا على اسم الله ، فنفروا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش ، وسار محمد صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصوا خلأت القصوا ، فقال : محمد صلى الله عليه وسلم : ما خلأت القصوا وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم قال : والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياه ، ثم زجرها فوثبت . قال : فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضاً ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، وشكا الناس إلى محمد صلى الله عليه وسلم العطش ، فنزع سهماً من كنانته وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له ناجية بن عمير ، وهو سائق بدن محمد صلى الله عليه وسلم ، فنزل في البئر فغرزه في جوفه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة وكانوا عيبة نصح نبي الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نجيء لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين البيت ؟ وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم عن أمري هذا حتى تنفرد سالفتي هذا أو لينفذن الله أمره . فقال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشاً ، قال : إنا جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولاً ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، قال : فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول . قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم . فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال : أي قوم ألست بالوالد ؟ قالوا : بلى ، قال : أولستم بالولد ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : لا ، قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته ، قالوا : ائته . فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل . فقال عروة عند ذلك : يا محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك ؟ هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فإني والله لأرى وجوهاً وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك . فقال له أبو بكر الصديق : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ . فقال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر ، فقال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك . قال : وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ، وقال أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي غدر ألست أسعى في غدرتك . وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء . ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فوالله ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ، فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له ، فبعثت له واستقبله الناس يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ؟ فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت . ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس ، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى ، فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صده الهدي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، فقالوا له : اجلس إنما أنت رجل أعرابي لا علم لك ، فغضب الحليس عند ذلك ، فقال : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ، أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظماً له ، والذي نفس حليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد ، فقالوا له : مه ، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به . فقام رجل منهم يقال له : مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف عليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا مكرز وهو رجل فاجر ، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، وقال عكرمة : فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : قد سهل لكم من أمركم . قال الزهري في حديثه : فجاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات نكتب بيننا وبينكم كتاباً ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللهم ، كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : اكتب باسمك اللهم ، ثم قال : اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب يا علي محمد ابن عبد الله قال الزهري : وذلك لقوله : لا يسألون خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وعلى أن تخلوا بيننا وبين البيت ، فنطوف به ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب ، فقال سهيل ، وعلى أن لا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً ؟ . وروى أبو إسحاق عن البراء قصة الصلح وفيه قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله ، قال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، ثم قال لعلي رضي الله عنه : امح رسول الله ، قال علي : لا والله لا أمحوك أبداً ، قال : فأرينه ، فأراه إياها ، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، وفي رواية : فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم وليس يحسن أن يكتب ، فكتب هذا ما قضى محمد بن عبد الله . قال البراء : صالح على ثلاثة أشياء : على أن من أتاه من المشركين رده إليهم ، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه ، وعلى أن يدخلها من قابل ، ويقيم بها ثلاثة أيام ، ولا يدخلها إلا بجلباب السلاح السيف والقوس ونحوه " .

روى ثابت عن أنس : أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا : أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقالوا : يا رسول الله أنكتب هذا ؟ قال : نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله فرجاً ومخرجاً . رجعنا إلى حديث الزهري ، فبيناهم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد ، قال : فوالله إذاً لا أصالحك علي شيء أبداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأجره لي ، فقال : فما أنا بمجيره لك ، قال : بلى فافعل ، قال : ما أنا بفاعل ، ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش ، قال أبو جندل : أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً ألا ترون ما قد لقيت ؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله . وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقداً وصلحاً ، وإنا لا نغدر ، فوثب عمر يمشي إلى جنب أبي جندل ، ويقول : اصبر فإنما هم المشركون ودم أحدهم كدم كلب ، ويدني قائم السيف منه ، قال عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه . وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوا ذلك دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون ، وزادهم أمر أبي جندل شراً إلى ما بهم . قال عمر : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ . قال الزهري في حديثه عن عروة عن مروان والمسور ، ورواه أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ألست نبي الله حقاً ؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به ، قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله ليس يعصي ربه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فوالله إنه على الحق ، قلت : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا ، قال : فإني آتيه وتطوف به . قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً . قال : فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ، ثم احلقوا ، قال : فوالله ما قام رجل حتى قال : ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم أن يقتل بعضاً غما وحزنا . قال ابن عمر وابن عباس : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يرحم الله المحلقين ، قالوا : والمقصرين ؟ قال : يرحم الله المحلقين ، قالوا : يا رسول الله والمقصرين ؟ قال : والمقصرين ، قالوا : يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال : لأنهم لم يشكوا ، قال ابن عمر : وذلك لأنه تربص قوم وقالوا لعلنا نطوف بالبيت . قال ابن عباس : وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك . وقال الزهري في حديثه : ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } حتى بلغ { بعصم الكوافر } ( الممتحنة-10 ) ، فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية ، قال : فنهاهم أن يردوا النساء وأمر برد الصداق . قال : ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد ، رجل من قريش وهو مسلم ، وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا في طلبه رجلاً من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالا : العهد الذي جعلت لنا ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح في ديننا الغدر ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيداً ، فاستله الآخر من غمده ، فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأخذوه وعلاه به فضربه حتى برد ، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه ، لقد رأى هذا ذعراً ، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ويلك مالك ؟ قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول ، فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ويل أمه مسعر حرب ، لو كان معه أحد ، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير : ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد ، فخرج عصابة منهم إليه ، وانفلت أبو جندل ابن سهيل فلحق بأبي بصير ، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن آتاه فهو آمن ، فأرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فقدموا عليه المدينة ، فأنزل الله تعالى : { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً } حتى بلغ { حمية الجاهلية } وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينه وبين البيت . قال الله تعالى : { هم الذين كفروا } يعني كفار مكة ، { وصدوكم عن المسجد الحرام } أن تطوفوا به ، { والهدي } أي : وصدوا الهدي ، وهي البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين بدنة ، { معكوفاً } محبوساً ، يقال : عكفته عكفاً إذا حبسته وعكوفاً لازم ، كما يقال : رجع رجعاً ورجوعاً ، { أن يبلغ محله } منحره وحيث يحل نحره يعني الحرم ، { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } يعني المستضعفين بمكة ، { لم تعلموهم } لم تعرفوهم ، { أن تطئوهم } بالقتل وتوقعوا بهم ، { فتصيبكم منهم معرة بغير علم } قال ابن زيد : معرة إثم . وقال ابن إسحاق : غرم الدية . وقيل : الكفارة لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية ، فقال :{ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } ( النساء-92 ) . وقيل : هو أن المشركين يعيبونكم ويقولون : قتلوا أهل دينهم ، والمعرة : المشقة ، يقول : لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فليزمكم بهم كفارة أو يلحقكم سبة . وجواب ( لولا ) محذوف ، تقديره : لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك . { ليدخل الله في رحمته من يشاء } فاللام في ليدخل متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام ، يعني : حال بينكم وبين ذلك ليدخل الله في رحمته في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح قبل أن تدخلوها ، { لو تزيلوا } لو تميزوا يعني المؤمنين من الكفار ، { لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً } بالسبي والقتل بأيديكم ، وقال أهل العلم : لعذبنا جواب لكلامين أحدهما : لولا رجال والثاني : لو تزيلوا ، ثم قال : { ليدخل الله في رحمته من يشاء } يعني المؤمنات . وقوله : { في رحمته } أي : جنته . وقال قتادة : في هذه الآية : إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما يدفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

ثم ذكر تعالى الأمور المهيجة على قتال المشركين ، وهي كفرهم بالله ورسوله ، وصدهم رسول الله ومن معه من المؤمنين ، أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج والعمرة ، وهم الذين أيضا صدوا { الهدي مَعْكُوفًا } أي : محبوسا { أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } وهو محل ذبحه وهو مكة ، فمنعوه من الوصول إليه ظلما وعدوانا ، وكل هذه أمور موجبة وداعية إلى قتالهم ، ولكن ثم مانع وهو : وجود رجال ونساء من أهل الإيمان بين أظهر المشركين ، وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن أن لا ينالهم أذى ، فلولا هؤلاء الرجال المؤمنون ، والنساء المؤمنات ، الذين لا يعلمهم المسلمون أن تطأوهم ، أي : خشية أن تطأوهم { فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } والمعرة : ما يدخل تحت قتالهم ، من نيلهم بالأذى والمكروه ، وفائدة أخروية ، وهو : أنه ليدخل في رحمته من يشاء فيمن عليهم بالإيمان بعد الكفر ، وبالهدى بعد الضلال ، فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب .

{ لَوْ تَزَيَّلُوا } أي : لو زالوا من بين أظهرهم { لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } بأن نبيح لكم قتالهم ، ونأذن فيه ، وننصركم عليهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة أخرى من نعمه عليهم ، وكشف لهم عن جانب من حكمته فى منع القتال بينهم وبين مشركى مكة ، وفى هدايتهم إلى هذا الصلح فقال : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ . . . بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } .

والمراد بالذين كفروا فى قوله - تعالى - : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ } مشركو قريش ، الذين منعوا النبى - صلى الله عليه وسلم - من دخول مكة ، ومن الطواف بالبيت الحرام .

والهدى : مصدر بمعنى المفعول ، أى : المهدى ، والمقصود به ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الإِبل والبقر والغنم ، ليذبح تقربا إلى الله - تعالى - وكان مع المسلمين فى رحلتهم هذه التى تم فيها صلح الحديبية سبعين بدنة - على المشهور - ولفظ الهدى قرأ الجمهور بالنصب عطفا على الضمير المنصوب فى قوله : { صدوكم } وقرأ أبو عمرو بالجر عطفا على المسجد . .

وقوله : { مَعْكُوفاً } أى : محبوسا . يقال : عكفه يعكفه عكفا ، إذا حبسه ومنه الاعتكاف فى المسجد ، بمعنى الاحتباس فيه ، وهو حال من الهدى .

وقوله : { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } منصوب بنزع الخافض ، أى : عن أن يبلغ محله ، أى : مكانه الذى يذبح فيه وهو منى .

والتعبير بقوله : { هُمُ الذين كَفَرُواْ } تصريح بذمهم وتوبيخهم على موقفهم المشين من المؤمنين ، الذين لم يأتوا إلى مكة لحرب ، وإنما اتوا لأداء شعيرة من شعائر الله .

أى : هم فى ميزان الله واعتباره الكافرون حقا . لأنهم صدوكم ومنعوكم - أيها المؤمنون - عن دخول المسجد الحرام ، وعن الطواف به ، ولم يكتفوا بذلك ، بل منعوا الهدى المحبوس من أجل ذبحه على سبيل التقرب به إلى الله - من الوصول إلى محله الذى يذحب فيه فى العادة وهو منى .

قال القرطبى ما ملخصه : " قوله : { والهدي مَعْكُوفاً } أى : محبوسا . . { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } أى : منحره . . والمحل - بالكسر - غاية الشئ ، وبالفتح : هو الموضع الذى يحله الناس ، وكان الهدى سبعين بدنه ، ولكن الله - تعالى - بفضله جعل ذلك الموضع - وهو الحديبية - له محلا .

وفى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال : نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة . .

وفى البخارى عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرين ، فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنة وحلق رأسه .

وقوله - تعالى - : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ . . } بيان لحكمة الله - تعالى - فى منع الحرب بين الفريقين .

وجواب " لولا " محذوف لدلالة الكلام عليه . والمراد بالرجال المؤمنين وبالنساء المؤمنات : سبع رجال وأمرأتان كانوا بمكة .

قال الآلوسى : " وكانوا على ما اخرج أبو نعيم بسند جيد وغيره عن أبى جمعة جنبذ بن سبع - تسعة نفر : سبعة رجال - وهم منهم - وامرأتين .

وجملة { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة رجال ونساء على تغليب المذكر على المؤنث .

وقوله { أَن تَطَئُوهُمْ } بدل اشتمال من رجال ونساء ، والوطء الدَّرْس ، والمراد به هنا الإِهلاك . وقوله : { مَّعَرَّةٌ } أى : مكروه وأذى يقال عَرَّه يُعره عَرًّا ، إذا أصابه بمكروه ، وأصله من العُرِّ وهو الجرب .

والمراد به هنا : تعبير الكفار للمؤمنين بقولهم : لقد قتلتم من هم على دينكم .

والمعنى : ولولا كراهة أن تهلكوا - أيها المؤمنين - أناسا مؤمنين موجودين فى مكة بين كفارها ، وأنتم لا تعرفونهم ، فيصيبكم بسبب إهلاكهم مكروه ، لولا كل ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة ، بل لسلطكم عليهم لكى تقتلوهم .

واللام فى قوله - سبحانه - : { لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } متعلقة بما يدل عليه جواب لولا المقدر .

أى : لولا ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة ، ولكنه - سبحانه - كف أيديكم عنهم ، ليدخل فى رحمته بسبب هذا الكف من يشاء من عباده ، وعلى رأس هؤلاء العباد ، المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا فى مكة ، والذين اقتضت رحمته أن يتمم لهم أجورهم بإخرادهم من بين ظهرانى الكفار ، ويفك أسرهم ، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب . .

كذلك قد شملت رحمته - تعالى - بعض كفار مكة ، الذين تركوا بعد ذلك الكفر ودخلوا فى الإِسلام ، كأبى سفيان وغيره من الذين أسلموا بعد فتح مكة أو بعد صلح الحديبية .

وقوله - سبحانه - : { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } تأكيد لما دل عليه الكلام السابق ، من أن حكمته - تعالى - قد اقتضت كف أيدى المؤمنين عن الكفار ، رحمة بالمؤمنين الذين يعيشون فى مكة مع هؤلاء الكافرين .

وقوله { تَزَيَّلُواْ } أى : تميزَّوا . يقال : زِلْتُه زَيْلاً ، أى : مِزْتُه ، وزيله فتزيل أى : فرقة فتفرق أى : لو تميز هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين يعيشون فى مكة عن كفارها وفارقوهم وخرجوا منها ، وانعزلوا عنهم ، لعدبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ، تارة عن طريق إهلاكهم ، وتارة عن طريق إذلالهم وأخذهم أسرى ، و " من " فى قوله { مِنْهُمْ } للبيان لا للبتعيض .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

18

ثم يحدثهم عن خصومهم ، من هم في ميزان الله ? وكيف ينظر إلى أعمالهم وصدهم للمؤمنين عن بيته الحرام . وكيف ينظر إليهم هم عكس ما ينظر إلى خصومهم المعتدين :

هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ، والهدي معكوفا أن يبلغ محله ، ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما . إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ؛ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكان الله بكل شيء عليما . .

هم في ميزان الله واعتباره ، الكافرون حقا ، الذين يستحقون هذا الوصف الكريه : ( هم الذين كفروا ) . . يسجله عليهم كأنهم متفردون به ، عريقون في النسبة إليه ، فهم أكره شيء إلى الله الذي يكره الكفر والكافرين ! كذلك يسجل عليهم فعلهم الكريه الآخر ، وهو صدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام ، وصد الهدي وتركه محبوسا عن الوصول إلى محل ذبحه المشروع :

( وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) . .

وهي كبيرة في الجاهلية وفي الإسلام . كبيرة في الأديان كلها التي يعرفونها في الجزيرة من لدن أبيهم إبراهيم . كريهة في عرفهم وفي عقيدتهم وفي عقيدة المؤمنين . . فلم يكن إذن كف الله للمؤمنين عنهم بقيا عليهم لأن جرمهم صغير . كلا ! إنما كان ذلك لحكمة أخرى يتلطف الله سبحانه فيكشف عنها للمؤمنين :

( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم . . )

فلقد كان هنالك بعض المستضعفين من المسلمين في مكة لم يهاجروا ، ولم يعلنوا إسلامهم تقية في وسط المشركين . ولو دارت الحرب ، وهاجم المسلمون مكة ، وهم لا يعرفون أشخاصهم ، فربما وطأوهم وداسوهم وقتلوهم . فيقال : إن المسلمين يقتلون المسلمين ! ويلزمون بدياتهم حين يتبين أنهم قتلوا خطأ وهم مسلمون . .

ثم هنالك حكمة أخرى وهي أن الله يعلم أن من بين الكافرين الذين صدوهم عن المسجد الحرام ، من قسمت له الهداية ، ومن قدر له الله الدخول في رحمته ، بما يعلمه من طبيعته وحقيقته ؛ ولو تميز هؤلاء وهؤلاء لأذن الله للمسلمين في القتال ، ولعذب الكافرين العذاب الأليم :

( ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) . .

وهكذا يكشف الله للجماعة المختارة الفريدة السعيدة عن جانب من حكمته المغيبة وراء تقديره وتدبيره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

يريد بقوله تعالى : { هم الذين كفروا } أهل مكة الذين تقدم ذكرهم . وقوله { وصدوكم عن المسجد الحرام } هو منعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العمرة عام الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد العمرة وتعظيم البيت ، وخرج معه بمائة بدنة ، قاله النقاش ، وقيل بسبعين ، قاله المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، فلما دنا من مكة ، قال أهل مكة هذا محمد الذي قد حاربنا وقتل فينا ، يريد أن يدخل مكة مراغمة لنا ، والله لا تركناه حتى نموت دون ذلك ، فاجتمعموا لحربه ، واستنجدوا بقبائل من العرب وهم الأحابيش وبعثوا فغوروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم المياه التي تقرب من مكة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية ، وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمراً حتى كفى الجيش ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة عثمان ، وبعث أهل مكة إليه رجالاً منهم : عروة بن مسعود ، وبديل بن ورقاء ، وتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك أياماً حتى سفر سهيل بن عمرو ، وبه انعقد الصلح على أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ويعتمر من العام القادم ، فهذا كان صدهم إياه وهو مستوعب في كتب السير ، فلذلك اختصرناه .

وقرأ الجمهور : «والهدْي » بسكون الدال . . وقرأ الأعرج والحسن بن أبي الحسن : «والهدِيّ » بكسر الدال وشد الياء ، وهما لغتان ، وهو معطوف على الضمير في قوله : { وصدوكم } أي وصدوا الهدي . و : { معكوفاً } حال ، ومعناه : محبوساً ، تقول : عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته ، وقد قال أبو علي : إن عكف لا يعرفه متعدياً ، وحكى ابن سيده وغيره : تعديه ، وهذا العكف الذي وقع للهدي كان من قبل المشركين بصدهم ، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونظرهم في أمرهم فحبسوا هديهم . و { أن } في قوله : { أن يبلغ } يحتمل أن يعمل فيها الصد ، كأنه قال : وصدوا الهدي كراهة أن أو عن أن ، ويحتمل أن يعمل فيها العكف فتكون مفعولاً من أجله ، أي الهدي المحبوس لأجل { أن يبلغ محله } ، و { محله } مكة .

وذكر الله تعالى العلة في أن صرف المسلمين ولم يمكنهم من دخول مكة في تلك الوجهة ، وهو أنه كان بمكة مؤمنون ومن رجال ونساء خفي إيمانهم ، فلو استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين . قال قتادة : فدفع الله عن المشركين ببركة أولئك المؤمنين ، وقد يدفع بالمؤمنين عن الكفار .

وقوله تعالى : { لم تعلموهم } صفة للمذكورين . وقوله : { أن تطؤوهم } يحتمل أن تكون { أن } بدلاً من { رجال } ، كأنه قال : ولولا قوم مؤمنون أن تطؤوهم ، أي لولا وطئكم قوماً مؤمنين ، فهو على هذا في موضع رفع ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب بدلاً من الضمير في قوله : { لم تعلموهم } كأنه قال : لم تعلموا وطأهم أنه وطء المؤمنين ، والوطء هنا : الإهلاك بالسيف وغيره على وجه التشبيه ، ومنه قول الشاعر [ زهير ] : [ الكامل ]

ووطئتنا وطئاً على حنق . . . وطء المقيد ثابت الهرم{[10423]}

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ){[10424]} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن آخر وطأة الرب يوم وج بالطائف »{[10425]} لأنها كانت آخر وقعة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيها ذكر هذا المعنى النقاش : و «المعرة » السوء والمكروه اللاصق ، مأخوذ من العر والعرة وهي الجرب الصعب اللازم{[10426]} . واختلف الناس في تعيين هذه المعرة ، فقال ابن زيد : هي المأثم وقال ابن إسحاق : هي الدية .

قال القاضي أبو محمد : وهذان ضعيفان ، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان من أهل الحرب .

وقال الطبري حكاه الثعلبي : هي الكفارة . وقال منذر : المعرة : أن يعيبهم الكفار ويقولوا قتلوا أهل دينهم . وقال بعض المفسرين : هي الملام والقول في ذلك ، وتألم النفس منه في باقي الزمن .

قال القاضي أبو محمد : وهذه أقوال حسان . وجواب { لولا } محذوف تقديره : لمكناكم من دخول مكة وأيدناكم عليهم .

وقرأ الأعمش : «فتنالكم منه معرة » .

واللام في قوله : { ليدخل } يحتمل أن يتعلق بمحذوف من القول ، تقديره : لولا هؤلاء لدخلتم مكة ، لكن شرفنا هؤلاء المؤمنين بأن رحمناهم ودفعنا بسببهم عن مكة { ليدخل الله } : أي ليبين للناظر أن الله تعالى يدخل من يشاء في رحمته ، أو ليقع دخولهم في رحمة الله ودفعه عنهم ، ويحتمل أن تتعلق بالإيمان المتقدم الذكر ، فكأنه قال : ولولا قوم مؤمنون آمنوا ليدخل الله من يشاء في رحمته ، وهذا مذكور ، لكنه ضعيف ، لأن قوله : { من يشاء } يضعف هذا التأويل .

ثم قال تعالى : { لو تزيلوا } أي لو ذهبوا عن مكة ، تقول : أزلت زيداً عن موضعه إزالة ، أي أذهبته ، وليس هذا الفعل من زال يزول ، وقد قيل هو منه .

وقرأ أبو حيوة وقتادة : بألف بعد الزاي ، أي «لو تزايلوا » ، أي ذهب هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء .

وقوله : { منهم } لبيان الجنس إذا كان الضمير في { تزيلوا } للجميع من المؤمنين والكافرين وقال النحاس : وقد قيل إن قوله : { ولولا رجال مؤمنون } الآية . يريد من في أصلاب الكافرين من سيؤمن في غابر الدهر ، وحكاه الثعلبي والنقاش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً .


[10423]:البيت في اللسان، وقد نسبه إلى زهير، وهو في الحقيقة للحارث بن وعلة الشيباني كما جاء في شرح القصائد السبع الطوال، ورواية اللسان-هرم-:(يابس الهرم)، والوطأة: الأخذة الشديدة، وفي الحديث الشريف(اللهم اشدد وطأتك على مضر)، أي خذهم أخذة شديدة، والحَنَق: شدة الاغتياظ، والنابت: الغض الطري، والهرْم(بسكون الراء): ضرب من الحمض فيه ملوحة، وهو أذله وأشده انبساطا على الأرض، واحدته: هرمة، وهي التي يقال لها: حيهلة، وفي المثل: أذل من هرمة، يقول: لقد أخذتنا أخذة شديدة قاسية، وكنت مغيظا محنقا، وكنا ضعافا أذلة كأننا البقلة الحقيرة التي تدوسها الأقدام على الأرض.
[10424]:أخرجه البخاري في الأذان والاستسقاء والجهاد والأنبياء وتفسير سورة النساء وفي الأدب، وأخرجه مسلم في المساجد، وأو داود في الصلاة، والنسائي في التطبيق، وابن ماجه في الإقامة، وأحمد في مسنده(2-239، 255، 271، 418، 470، 502، 521).ولفظه في المسند، عن أبي هريرة رضي الله عنه:(لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الآخرة من صلاة الصبح قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مُضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف).
[10425]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده(4-172،6-409)، عن يعلى العامري أنه جاء حسن وحُسين رضي الله عنهما يستبقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضمهما إليه وقال:(أن الولد مبخلة مجبنة، وإن آخر وطأة وطئها الرحمن عز وجل بوج)، وفي رواية عن خولة بنت حكيم أنه قال:(والله إنكم لتجبنون وتبخلون، وإنكم لمن ريحان الله عز وجل)، والمعنى: إنكم لتجملون على الجبن والبخل، يعني الأولاد،فإن الأب يجبن عن القتال ليعيش لأولاده فيربيهم، وإنه ليبخل بإنفاق ماله ليخلفه لهم، وريحان الله: رزقه وعطاؤه، ووج: مكان من الطائف، يعني أن آخر وطأة أو أخذة أخذ بها الكفار كانت بوج، وكانت غزوة الطائف هي آخر غزوات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يغز بعدها إلا غزوة تبوك، ولم يكن فيها قتال.
[10426]:ومنه قول الشاعر: قل للفوارس من غزية إنهم عند القتال معرة الأبطال.