فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

{ هم الذين كفروا } يعني : كفار قريش { وصدوكم عن المسجد الحرام } أي عن الوصول إليه ، ومعنى الصد أنهم منعوهم أن يطوفوا بالمسجد الحرام ، ويحلوا عن عمرتهم { والهدي معكوفا } أي محبوسا ، قرأ الجمهور بنصب الهدي عطفا على الضمير المنصوب في صدوكم ، وقرئ عطفا على المسجد ، ولا بد من تقدير مضاف ، أي عن نحر الهدي ، وقرئ بالرفع على تقدير وصد الهدي ، وقرأ الجمهور بفتح الهاء من الهدي وسكون الدال ، وقرئ بكسرها وتشديد الياء ، وانتصاب معكوفا على الحال من الهدي ، قال الجوهري : عكفه أي حبسه ووقفه ، ومنه و { الهدي معكوفا } ومنه الاعتكاف في المسجد . وهو الاحتباس ، وعكف على الشيء أقبل عليه مواظبا ، وقال أبو عمرو بن العلاء ؛ معكوفا مجموعا . وأنكر الفارسي تعدية عكف بنفسه ، وأثبتها ابن سيده والأزهري وغيرهما ، وهو ظاهر القرآن لبناء اسم المفعول منه .

{ أن يبلغ محله } أي عن أن يبلغ محله ، أو مفعول لأجله ، والمعنى صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله ، ومحله منحره ، وهو حيث يحل نحره من الحرم ، أو هو بدل اشتمال من الهدي ، وكان الهدي سبعين بدنة ، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها ، ورخص الله سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه وهو الحديبية محلا للنحر ، فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر هو الحرم ، وللعلماء في هذا الكلام معروف في كتب الفروع .

{ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة { لم تعلموهم } أي لم تعرفوهم ، وقيل : لم تعلموا أنهم مؤمنون { أن تطأوهم } أي بالقتل ، والإيقاع بهم يقال : وطأت القوم أي أوقعت بهم ، وذلك أنهم لو كبسوا مكة وأخذوها عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم فيها من الكفار ، وعند ذلك لا يأمنون أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفارة وتلحقهم سبة ، وهو معنى قوله : { فتصيبكم منهم } أي من جهتهم { معرة } أي مشقة ، بما يلزمكم في قتلهم من كفارة وعيب ، وأصل المعرة العيب ، مأخوذ من العر وهو الجرب .

وذلك أن المشركين سيقولون : إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم ، قال الزجاج : معرة أي إثم ، وكذا قال الجوهري ، وبه قال ابن زيد ، وقال الكلبي ومقاتل وغيرهما : المعرة كفارة قتل الخطأ ، كما في قوله { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } ، لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة ، دون الدية ، وقال ابن إسحق : المعرة غرم الدية ، وقال قطرب : المعرة الشدة وقيل الغم ، وقيل : هي مفعلة من عره بمعنى عراه إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه .

{ بغير علم } متعلق بأن تطأوهم أي : غير عالمين ، وجواب لولا محذوف والتقدير : لأذن الله لكم ، أو لما كف أيديكم عنهم { ليدخل الله } اللام متعلقة بما يدل عليه الجواب المقدر ، أي ولكن لم يؤذن لكم ، أو كف أيديكم عنهم ، ليدخل الله { في رحمته } بذلك أي في توفيقه لزيادة الخير في الإسلام { من يشاء } من عباده وهم المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا في مكة ، فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار ، ويفك أسرهم ، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب ، وقيل اللام متعلقة بمحذوف غير ما ذكر ، والتقدير لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته والأول أولى .

وقيل إن : ( من يشاء ) عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين .

عن أبي جمعة جنيد بن سبع قال : " قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافرا وقاتلت معه آخر النهار مسلما ، وفينا نزلت ولولا رجال إلخ وكنا تسعة نفر : سبعة رجال وامرأتان " .

وفي رواية ابن أبي حاتم " كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة " ، أخرجه الطبراني وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن قانع والبارودي والطبراني وابن مردويه ، قال السيوطي . بسند جيد ، وعن ابن عباس في الآية قال : حين ردوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تطأوهم بقتلكم إياهم .

{ لو تزيلوا } التزيل التميز أي لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا منهم ، قاله العتبي ، وقال الكلبي لو تفرقوا ، وقيل لو زال الذين آمنوا من بين أظهرهم والمعاني متقاربة ، قرأ الجمهور لو تزيلوا ، وقرئ لو تزايلوا والتزايل التباين { لعذبنا الذين كفروا منهم } أي من أهل مكة حينئذ بأن نأذن لكم في فتحها { عذابا أليما } قال القاضي بالقتل والسبي ، وهو الظاهر ، لأن المراد من تعذيبهم التعذيب الدنيوي الذي هو تسليط المؤمنين عليهم وقتالهم ، فإن عدم التمييز لا يوجب عدم عذاب الآخرة ، أفاده على القاري ، قال ابن عباس : لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذابا أليما بقتلكم إياهم ، قال قتادة : إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار ، كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة .