الأولى- قوله تعالى : " هم الذين كفروا " يعني قريشا ، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعمرة ، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله . وهذا كانوا لا يعتقدونه ، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا ، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه ، وأدخل الأنس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه ووعده .
الثانية- قوله تعالى : " والهدي معكوفا " أي محبوسا . وقيل موقوفا{[14021]} . وقال أبو عمرو بن العلاء : مجموعا . الجوهري : عَكَفَه أي حبسه ووقفه ، يعكِفه ويعكُفه عكفا ، ومنه قوله تعالى : " والهدي معكوفا " ، يقال : ما عكفك عن كذا . ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس . " أن يبلغ محله " أي منحره ، قاله الفراء . وقال الشافعي رضي الله عنه : الحرم . وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، المحصر محل هديه الحرم . والمحل ( بكسر الحاء ) : غاية الشيء . ( وبالفتح ) : هو الموضع الذي يحله الناس . وكان الهدي سبعين بدنة ، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا . وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في " البقرة " عند قوله تعالى : " فإن أحصرتم " {[14022]} والصحيح ما ذكرناه . وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة . وعنه قال : اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة . فقال رجل لجابر : أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور ؟ قال : ما هي إلا من البدن . وحضر جابر الحديبية قال : ونحرنا يومئذ سبعين بدنة ، اشتركنا كل سبعة في بدنة . وفي البخاري عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين ، فحال كفار قريش دون البيت ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه . قيل : إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلوا ، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت له أم سلمة : لو نحرت لنحروا ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه ونحروا بنحره ، وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة . ورأى كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه ، فقال : [ أيؤذيك هوامك ] ؟ قال نعم ، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية . خرجه البخاري والدارقطني . وقد مضى في " البقرة " {[14023]} .
الثالثة- قوله تعالى : " والهدي " والهَديُ والهَدِيّ لغتان . وقرئ " حتى يبلغ الهَدْيُ محله " [ البقرة : 196 ] بالتخفيف والتشديد ، الواحدة هدية . وقد مضى في " البقرة " {[14024]} أيضا . وهو معطوف على الكاف والميم من " صدوكم " . و " معكوفا " حال ، وموضع " أن " من قوله : " أن يبلغ محله " نصب على تقدير الحمل على " صدوكم " أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ . ويجوز أن يكون مفعولا له ، كأنه قال : وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله . أبو علي : لا يصح حمله على العكف ، لأنا لا نعلم " عكف " جاء متعديا ، ومجيء " معكوفا " في الآية يجوز أن يكون محمولا على المعنى ، كأنه لما كان حبسا حمل المعنى على ذلك ، كما حمل الرفث على معنى الإفضاء فعدي بإلى ، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصبا على قياس قول سيبويه ، وجرا على قياس قول الخليل . أو يكون مفعولا له ، كأنه قال : محبوسا كراهية أن يبلغ محله . ويجوز تقدير الجر في " أن " لأن عن تقدمت ، فكأنه قال : وصدوكم عن المسجد الحرام ، وصدوا الهدي " عن " أن يبلغ محله . ومثله ما حكاه سيبويه عن يونس : مررت برجل إن زيد وإن عمرو ، فأضمر الجار لتقدم ذكره .
قوله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم } فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : " ولولا رجال مؤمنون " يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار ، كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل ، وأشباههم . " لم تعلموهم " أي تعرفوهم . وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون . " أن تطؤوهم " بالقتل والإيقاع بهم ، يقال : وطئت القوم ، أي أوقعت بهم . و " أن " يجوز أن يكون رفعا على البدل من رجال ، ونساء كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات . ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في " تعلموهم " ، فيكون التقدير : لم تعلموا وطأهم ، وهو في الوجهين بدل الاشتمال . " لم تعلموهم " نعت ل " رجال " و " نساء " . وجواب " لولا " محذوف ، والتقدير : ولو أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة ، ولسلطكم عليهم ، ولكنا صُنَّا من كان فيها يكتم إيمانه . وقال الضحاك : لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطؤوا آباءهم فتهلك أبناؤهم .
الثانية- قوله تعالى : " فتصيبكم منهم معرة " المعرة العيب ، وهي مفعلة من العر وهو الجرب ، أي يقول المشركون : قد قتلوا أهل دينهم . وقيل : المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ ، لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله : " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " [ النساء : 92 ] قاله الكلبي ومقاتل وغيرهما . وقد مضى في " النساء " القول فيه{[14025]} . وقال ابن زيد : " معرة " إثم . وقال الجوهري وابن إسحاق : غرم الدية . قطرب : شدة . وقيل غم . الثالثة- قوله تعالى : " بغير علم " تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي ، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان عن غير قصد . وهذا كما وصفت النملة عن جنه سليمان عليه السلام في قولها : " لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " {[14026]} [ النمل : 18 ] .
قوله تعالى : { ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا } فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : " ليدخل الله في رحمته من يشاء " اللام في " ليدخل " متعلقة بمحذوف ، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته . ويجوز أن تتعلق بالإيمان . ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين لأن الجميع يدخلون في الرحمة . وقيل : المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة ، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه ، ودخلوا في رحمته ، أي جنته .
الثانية- قوله تعالى : " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " أي تميزوا ، قاله القتبي . وقيل : لو تفرقوا ، قاله الكلبي . وقيل : لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف ، قاله الضحاك . ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار . وقال علي رضي الله عنه : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا " فقال : [ هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذابا أليما ] .
الثالثة- هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن ، إذ لا يمكن أذية الكافر إلا بأذية المؤمن . قال أبو زيد قلت لابن القاسم : أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم ، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم ، أيحرق هذا الحصن أم لا ؟ قال : سمعت مالكا وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم : أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم ؟ قال : فقال مالك لا أرى ذلك ، لقوله تعالى لأهل مكة : " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " . وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه . وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة . فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة ، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا ، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والدية على عواقلهم . فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا . وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة . قال ابن العربي : وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال . وهذا ضعيف ، لأن من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة . وهو سبحانه قد صرح فقال : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم " وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال ، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل . وكذلك قال مالك : وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء ، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء ، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل ، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا . وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم . ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك ، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة . وقال الثوري : فيه الكفارة ولا دية . وقال الشافعي بقولنا . وهذا ظاهر ، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز ، سيما بروح المسلم ، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه . والله أعلم .
الرابعة- قلت : قد يجوز قتل الترس ، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله ، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية . فمعنى كونها ضرورية : أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس . ومعنى أنها كلية : أنها قاطعة لكل الأمة ، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين ، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة . ومعنى كونها قطعية : أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا . قال علماؤنا : وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها ، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا ، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين . وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون . ولا يتأتى لعاقل أن يقول : لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه ، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين ، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة ، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها ، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم . والله أعلم .
قراءة العامة " لو تزيلوا " إلا أبا حيوة فإنه قرأ " تزايلوا " وهو مثل " تزيلوا " في المعنى . والتزايل : التباين . و " تزيلوا " تفعلوا ، من زلت . وقيل : هي تفيعلوا . " لعذبنا الذين كفروا " قيل : اللام جواب لكلامين ، أحدهما : " لولا رجال " والثاني : " لو تزيلوا " . وقيل جواب " لولا " محذوف ، وقد تقدم . " ولو تزيلوا " ابتداء كلام .