الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

{ هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً } محبوساً . أي وصدّوا الهدي معكوفاً محبوساً .

) أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( منحره ، وكان سبعين بدنة ، روى الزهيري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسوّر بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، قالا : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالاً ، وساق معه سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كلّ بدنة عن عشرة نفر ، فلمّا بلغ ذا الحليفة ، تنامى إليه النّاس ، فخرج في بضع عشرة مائة من أصحابه ، حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد الهدي ، وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وكشف بين يديه عيناً من خزاعة يخبره عن قريش .

وسار النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى إذا كان بغدير الأشطاط ، قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعي ، فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وهم مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أشيروا عليَّ ، أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الّذين عاونوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين ، وان نجوا تكن عنقاً قطعها الله أو ترون أن نأمّ البيت ، فمن صدّنا عنه قاتلناه ) .

فقام أبو بكر ح ، فقال : يا رسول الله إنّا لم نأت لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا ، وبين البيت قاتلناه ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( فروحوا إذاً ) .

وكان أبو هريرة يقول : ما رأيت أحداً قط أكثر مشاورة لأصحابه من النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فراحوا حتّى إذا كانوا بعسفان ، لقيه بشر بن سفيان الكعبي ، فقال له : يا رسول الله هذه قريش ، قد سمعوا بسيرك ، فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود المنون ، ونزلوا بذي طوى ، يحلفون بالله لا يدخلها عليهم أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدّموها إلى كراع العميم . وقد ذكرت قول من قال : إنّ خالد بن الوليد يومئذ كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مسلماً ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( يا ويح قريش ، قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة ، فما تظنّ قريش ، فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتّى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السّالفة ) .

ثمّ قال : ( مَن رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ) ، فقال رجل من أسلم : أنا يا رسول الله . فخرج على طريق وعر حزن بين شعاب ، فلمّا خرجوا منه ، وقد شقّ ذلك على المسلمين وأفضى إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للناس : ( قولوا : نستغفر الله ، ونتوب إليه ) . ففعلوا ، فقال : ( والله إنّها للحطّة التي عُرِضَت على بني إسرائيل ، فلم يقولوها ) .

ثمّ قال رسول الله للنّاس : ( اسلكوا ذات اليمين ) في طريق يخرجه على ثنية المرار على مهبط الحديبية من أسفل مكّة .

فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلمّا رأت خيل قريش فترة قريش وأنّ رسول الله قد خالفهم عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش ينذرونهم ، وسار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى إذا سلك ثنية المرار بركت به ناقته ، فقال النّاس : حل حل . فقال : ( ما حل ؟ ) قالوا : حلأت الفضول . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حلأت ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ) .

ثمّ قال : ( والّذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون بها حرمات الله ، وفيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إيّاها ) ، ثمّ قال للناس : ( انزلوا ) فنزلوا بأقصى الحديبية على بئر قليلة الماء ، إنّما يتبرضه الناس تبرضاً ، فلم يلبث الناس أن ترجوه ، فشكا الناس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العطش فنزع سهماً من كنانته ، وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له : ناجية بن عمير بن يعمر بن دارم ، وهو سائق بدن رسول الله ، فنزل في ذلك البئر ، فغرزه في جوفه ، فجاش الماء بالريّ ، حتّى صدروا عنه ، ويقال : إنّ جارية من الأنصار أقبلت بدلوها ، وناجية في القليب يمتح على الناس ، فقالت :

يا أيّها الماتح دلوي دونكا

إنّي رأيت الناس يحمدونكا

يثنون خيراً ويمجّدونكا

أرجوك للخير كما يرجونكا

فقال :

قد علمت جارية يمانية

أنّي أنا الماتح واسمي ناجية

وطعنة ذات رشاش واهية

طعنتها عند صدور العادية

قال : فبينا هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه ، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل تهامة ، فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا بعَداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت .

فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّا لم نأتِ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب ، وأضرّت بهم ، فإن شاءوا ماددناهم مدة ، ويخلّوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلاّ فقد حموا ، فوالله لأُقاتلنّهم على أمري هذا ، حتّى تنفرد سالفتي أو لينفذنّ الله أمره ) .

فقال بديل : سنبلغهم ما تقول .

فانطلق حتّى أتى قريشاً ، فقال : إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولاً ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، فقال سفهاؤوهم : لا حاجة لنا في أن تحدّثنا بشيء عنه ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول . قال : سمعته يقول كذا ، وكذا . فحدّثهم بما قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقام عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : أي قوم ، ألستم بال الوالد ؟ قالوا : بلى . قال : ألستُ بالولد ؟ قالوا : بلى .

قال : فهل تتّهموني ؟ قالوا : لا . قال : أفلستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عُكاظ ، فلمّا ألحّوا عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى . قال : فإنّ هذا الرجل ، قد عرض عليكم خطة رُشد فاقبلوها ودعوني آئته ، قالوا : آتيه . فأتاه ، فجعل يكلِّم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال النبي نحواً من مقالته لبديل ، فقال عروة عند ذلك : يا محمّد ، أرأيت إن استأصلت قومك ، فهل سمعت بأحد من العرب استباح ، وقيل اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأُخرى فوالله إنّي لأرى وجوهاً وأشواباً من الناس خُلقاً أن يفرّوا ويدعوك .

فقال أبو بكر الصدِّيق ح : امصص بظر اللات واللات طاغية ثقيف التي كانوا يعبدون أنحن نفرّ وندعه ؟ فقال : مَنْ هذا ؟ قالوا : أبو بكر . فقال : أما والّذي نفسي بيده ، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك ، وجعل يكلِّم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فكلّما كلّمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله ، ومعه السيف وعلى رأسه المغفر ، فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخّر يدك عن لحيته ، فرفع عروة رأسه ، فقال : مَنْ هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة . قال : أي غدّار ، أوَلستَ أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة قد صحب قوماً في الجاهلية ، فقتلهم ، وأخذ أموالهم ، ثمّ جاء فأسلم ، فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( امّا الإسلام فقد قبلنا ، وأمّا المال ، فإنّه مال غدر لا حاجة لنا فيه ) . وإنّ عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله بعينه ، فقال : والله لن يتنخم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم ، فدلك بها وجهه ، وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له .

فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر ، وكسرى ، والنجاشي ، والله إنْ رأيت مَلكاً يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّداً ، والله إن يتنجم نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم ، فدلك بها وجهه ، وجلده ، وإذا أمرهم أمراً ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم ، وما يحدّون النظر تعظيماً له ، وإنّه قد عرض عليكم خطة رُشد فاقبلوها .

فقال رجل من كنانة : دعوني آتيه . قالوا : أتيه . فلمّا أشرف على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، قال النبي : ( هذا فلان من قوم يعظّمون البُدن ، فابعثوها له ) فبعثت له ، واستقبله قوم يلبّون ، فلمّا رأى ذلك ، قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت ، ثمّ بعثوا إليه الجليس بن علقمة بن ريان ، وكان يومئذ سيّد الأحابيش ، فلمّا رآه رسول الله قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ هذا من قوم يتألّهون ، فابعثوا بالهدي في وجهه حتّى يراه ) .

فلمّا رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، قد أكل أوتاده من طول الحبس ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إعظاماً لما رأى ، فقال : يا معشر قريش ، إنّي قد رأيت ما لا يحل صدّه ، الهدي في قلائده ، قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محلّه ، فقالوا له : اجلس ، فإنّما أنت أعرابي لا علم لك ، فغضب الجليس عند ذلك ، فقال : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم أن تصدّوا عن بيت الله من جاءه معظِّماً له ، والذي نفس الجليس بيده ، لتخلنّ بين محمّد ، وبين ما جاء له ، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد ، فقالوا له : كفّ عنّا يا جليس حتّى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به .

فقام رجل منهم يقال له : مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلمّا أشرف عليهم ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر ) ، فجعل يكلِّم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاء سهيل بن عمرو فلمّا رآه النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قد سهل لكم أمركم ، القوم يأتون إليكم بأرحامكم ، وسائلوكم الصلح ، فابعثوا الهدي وأظهروا التلبية لعلّ ذلك يليّن قلوبهم ) فلبّوا من نواحي العسكر حتّى ارتجّت أصواتهم بالتلبية ، فجاءوا ، فسألوا الصلح ، وقال سهيل : هات نكتب بيننا وبينكم كتاباً ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علي بن أبي طالب ح فقال له : ( اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ) . فقال سهيل : أما الرّحمن فلا أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللَّهُم ، كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلاّ بسم الله الرّحمن الرحيم .

فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لعليّ : ( اكتب باسمك اللَّهُم ) ، ثمّ قال : ( اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله ) . فقال سهيل : والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك .

فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( والله إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني ) . ثمّ قال لعلي : ( امح رسول الله ) ، فقال : والله لا أمحوك أبداً ، فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب ، فمحاه ، ثمّ قال : ( اكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبدالله سهيل بن عمرو ، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم من بعض ، وعلى أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّاً أو معتمراً أو يبغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله ، وعلى إنّه من أتى رسول الله من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممّن مع رسول الله لم يردّوه عليه ) .

فاشتدّ ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( من جاءهم منّا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً ، وإنّ بيننا عيبة مكفوفة ، وإنّه لا أسلال ، ولا أغلال ، وإنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد ، وعهده دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش ، وعهدهم دخل فيه ) .

فتواثبت خزاعة ، فقالوا : نحن في عقد محمّد وعهده ، وتواثبت بنو بكر ، فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وعلى أن يخلوا بيننا وبين البيت ، فنطوف به ) . فقال سهيل : ولا يتحدّث العرب إنّا أخذتنا ضغطة ، ولكن لك ذلك من العام المقبل ، فكتب : وعلى إنّك ترجع عنّا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكّة ، فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك ، فدخلتها بأصحابك ، فأقمت فيها ثلاثاً ، ولا تدخلها بالسّلاح إلاّ السيوف في القراب ، وسلاح الراكب ، وعلى أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه ، ولا تقدمه علينا ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن نسوقه ، وأنتم تردون وجوهه ) .

قال : فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، وإذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، يرسف في قيوده ، قد انفلت ، وخرج من أسفل مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فلمّا رأى سهيل أبا جندل ، قام إليه ، فضرب وجهه ، وأخذ سلسلته ، وقال : يا محمّد قد تمّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، وهذا أوّل من أقاضيك عليه ، أترده إلينا ؟ ثمّ جعل يجرّه ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أردّ إلى المشركين ، وقد جئت مسلماً لتنفرني عن ديني ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟ وكان قد عذِّب عذاباً شديداً في الله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا جندل احتسب ، فإنّ الله جاعل لك ، ولمن معك من المستضعفين فرجاً ، ومخرجاً ، إنّا قد عقدنا بيننا ، وبين القوم عقداً ، وصُلحاً ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهداً ، وإنّا لا نغدر ) . فوثب عمر بن الخطّاب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنّما هم المشركون وإنّما دم أحدهم دم كلب ، ويدني قائم السيف منه ، قال : يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ، فضنّ الرجل بأبيه .

قالوا : وقد كان أصحاب رسول الله خرجوا ، وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلمّا رأوا ذلك دخل الناسَ أمر عظيم حتى كادوا يهلكون ، وزادهم أمر أبي جندل شرّاً إلى ما بهم ، فقال عمر : والله ما شككت منذ أسلمت إلى يومئذ ، فأتيت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : ألست رسول الله ؟ قال : ( بلى ) . قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قال : ( بلى ) . قلت : فَلِمَ نعطي الدّنية في ديننا إذاً ؟

قال : ( إنّي رسول الله ، ولستُ أعصيه ، وهو ناصري ) .

قلت : ألستَ تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ، فنطوف به ؟ قال : ( بلى ) . قال : ( هل أخبرتك أنّا نأتيه العام ؟ ) . قلت : لا ، قال : ( فإنّك آتيه ومطوِّف به ) ، قال : ثمّ أتيت أبا بكر ، وقلت : أليس هذا نبيّ الله حقّاً ؟

قال : بلى . قلت : أفلسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قلت : فلِمَ يعطي الدّنية في ديننا إذاً ؟ قال : أيّها الرجل إنّه رسول الله ، وليس يعصي ربّه ، فاستمسك بغرزه حتّى تموت ، فوالله إنّه لعلى الحقّ . قلت : أوليس كان يحدِّث أنّا سنأتي البيت ، ونطوّف به ؟ قال : بلى . قال : أفأخبرك أنّك تأتيه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنّك آتيه وتطوف به . قال عمر : فما زلت أصوم وأتصدّق ، وأُصلّي ، وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به .

قالوا : فلمّا فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الكتاب أشهد رجالاً على الصلح من المسلمين ، ورجالاً من المشركين ، أبا بكر ، وعمر ، وعبد الرّحمن بن عوف ، وعبدالله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة أخا بني عبد الأشهل ، ومكرز بن حفص بن الأحنف ، وهو مشرك ، وعلي بن أبي طالب ، وكان هو كاتب الصحيفة .

فلمّا فرغ رسول الله من قصّته سار مع الهدي ، وسار الناس ، فلمّا كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية ، عرض له المشركون فردوا وجوهه ، فوقف النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حيث حبسوه ، وهي الحديبية وقال لأصحابه : ( قوموا ، فانحروا ، ثمّ احلقوا ) . قال : فوالله ما قام منهم رجل . حتّى قال ذلك ثلاث مرّات فلمّا لم يقم منهم أحد . قام فدخل على أُمّ سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس .

فقالت أُمّ سلمة : يا نبيّ الله اخرج ، ثمّ لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتّى تنحر بدنتك وتدعو حلاّقك فيحلقك . فقام فخرج ، فلم يكلِّم أحداً منهم كلمة حتى نحر بدنته ، ودعا حالقه ، فحلقه ، وكان الذي حلقه ذلك اليوم خراش بن أُمية بن الفضل الخزاعي ، فأما يوم الحديبية فحلق رجال وقصّر آخرون ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( يرحم الله المحلّقين ) . قالوا : والمقصّرين يا رسول الله ؟ قال : ( يرحم الله المحلّقين ) ، قالوا : والمقصّرين يا رسول الله ؟ قالوا : فلم ظاهرت الترحم للمحلّقين دون المقصّرين ؟ . قال : ( لأنّهم لم يشكّوا ) . قال ابن عمر : وذلك أنّه تربض القوم ، قالوا : لعلّنا نطوف بالبيت . قال ابن عبّاس : وأهدى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل في رأسه برة من فضّة ، ليغيظ المشركين بذلك ، ثمّ جاءه ( صلى الله عليه وسلم ) نسوة مؤمنات ، فأنزل الله تعالى : ) يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا إذا جاءَكم المُؤْمِنات مُهاجرات ( . . . الآية ، قال : فطلّق عمر امرأتين كانتا له في الشرك . قال : فنهاهم أن يردونهنّ وأمرهم أن ترد الصدُقات ، حينئذ ، قال رجل للزهري : أمن أجل الفروج ؟ قال : نعم ، فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأُخرى صفوان بن أمية ، ثمّ رجع النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة فجاءه أبو نصير عتبة بن أسيد بن حارثة وهو مسلم ، وكان ممّن جلس بمكّة ، فكتب فيه أزهر بن عبد عوف ، والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكتابهما ، وقالا : العهد الذي جعلت لنا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإنّ الله تعالى جاعل لك ، ولمن معك من المستضعفين فرَجاً ، ومخرجاً ) .

ثمّ دفعه إلى الرجلين ، فخرجا به حتّى إذا بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو نصير لأحد الرجلين : والله إنّي لأرى سيفك هذا جيّداً ، فاستلّه الآخر ، فقال : أجل والله إنّه لجيد . قال : أرني أنظر إليه . فأخذه وعلا به أخا بني عامر حتّى قتله ، وفرّ المولى وخرج سريعاً حتّى أتى رسول الله ( عليه السلام ) ، وهو جالس في المسجد ، فلمّا رآه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طالعاً قال : ( إنّ هذا الرجل قد رأى فزعاً ) .

فلمّا انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ويلك مالكَ ؟ ) قال : قَتل صاحبكم صاحبي . فوالله ما برح حتّى طلع أبو نصير متوشّحاً بالسيف ، حتّى وقف على رسول الله ، فقال : يا رسول الله وفت ذمّتك أسلمتني ورددتني وقيل : وذريتني إليهم ثمّ نجّاني الله منهم ، فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( ويلُ أُمّه مستعر حرب لو كان معه رجال ) .

فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم ، فخرج أبو نصير حتّى أتى سيف البحر ، ونزل بالغيّض من ناحية ذي المروة ، على ساحل البحر بطريق قريش ، الذي كانوا يأخذون إلى الشام وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكّة قول رسول الله ( عليه السلام ) لأبي نصير : ( ويل أُمّه مستعر حرب لو كان معه رجال ) . فخرج عصابة منهم إليه ، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي نصير حتّى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً منهم ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلاّ اعترضوا لهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، حتّى ضيّقوا على قريش ، فأرسلت قريش إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) يناشدونه الله ، والرحم ، لمّا أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فآواهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقدموا عليه المدينة .

قال الله تعالى : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ } بأن يقتلوهم { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ } قال ابن زيد : إثم ، وقال ابن إسحاق : غرم الدّية . وقيل : الكفّارة ؛ لأنّ الله تعالى إنّما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يعلم قاتله إيمانه الكفّارة دون الدّية ، فقال جلّ ثناؤه :

{ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [ النساء : 92 ] .

ولم يوجب على قاتل خطأ دية ، وقيل : هو أنّ المشركين يعيبونكم ويقولون : قتلوا أهل دينهم . ( والمعرّة ) المشقّة ، وأصلها من العرّ وهو الحرب لإذن ذلك في دخولها ، ولكنّه حال بينكم ، وبين ذلك { لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } دينه الإسلام { مَن يَشَآءُ } من أهل مكّة قبل أن تدخلوها ، هكذا نظم الآية وحكمها ، فحذف جواب ( لولا ) استغناء بدلالة الكلام عليه ، وقال بعض العلماء : قوله : ( لعذّبنا ) جواب لكلامين : أحدهما { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } ، والثاني : { لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي تميّزوا .

ثمّ قال : { لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } يعني المؤمنين ، والمؤمنات { فِي رَحْمَتِهِ } لكن جنّته . قال قتادة : في هذه الآية إنّ الله يدفع بالمؤمنين عن الكفّار ، كما يدفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكّة .

أخبرنا أبو عبد الله بن منجويه الدينوري ، حدّثنا أبو علي بن حبش المقري ، حدّثنا أبو الطيّب أحمد بن عبد الله بن بجلي الدارمي بإنطاكية ، حدّثني أحمد بن يعقوب الدينوري ، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن محمّد الأنصاري ، " حدّثني محمّد بن الحسن الجعفري ، قال : سمعت جعفر ابن محمّد يحدِّث ، عن أبيه ، عن جدّه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قول الله تعالى : { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } قال : " هم المشركون من أجداد النبيّ صلى الله عليه وسلم ممّن كان بعده في عصره ، كان في أصلابهم المؤمنون ، فلو تزيّل المؤمنون عن أصلاب الكفّار يعذب الله عذاباً أليماً " إذ من صلة قوله تعالى : { لَعَذَّبْنَا }