{ هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً } محبوساً . أي وصدّوا الهدي معكوفاً محبوساً .
) أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( منحره ، وكان سبعين بدنة ، روى الزهيري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسوّر بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، قالا : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالاً ، وساق معه سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كلّ بدنة عن عشرة نفر ، فلمّا بلغ ذا الحليفة ، تنامى إليه النّاس ، فخرج في بضع عشرة مائة من أصحابه ، حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد الهدي ، وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وكشف بين يديه عيناً من خزاعة يخبره عن قريش .
وسار النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى إذا كان بغدير الأشطاط ، قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعي ، فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وهم مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أشيروا عليَّ ، أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الّذين عاونوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين ، وان نجوا تكن عنقاً قطعها الله أو ترون أن نأمّ البيت ، فمن صدّنا عنه قاتلناه ) .
فقام أبو بكر ح ، فقال : يا رسول الله إنّا لم نأت لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا ، وبين البيت قاتلناه ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( فروحوا إذاً ) .
وكان أبو هريرة يقول : ما رأيت أحداً قط أكثر مشاورة لأصحابه من النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فراحوا حتّى إذا كانوا بعسفان ، لقيه بشر بن سفيان الكعبي ، فقال له : يا رسول الله هذه قريش ، قد سمعوا بسيرك ، فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود المنون ، ونزلوا بذي طوى ، يحلفون بالله لا يدخلها عليهم أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدّموها إلى كراع العميم . وقد ذكرت قول من قال : إنّ خالد بن الوليد يومئذ كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مسلماً ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( يا ويح قريش ، قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة ، فما تظنّ قريش ، فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتّى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السّالفة ) .
ثمّ قال : ( مَن رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ) ، فقال رجل من أسلم : أنا يا رسول الله . فخرج على طريق وعر حزن بين شعاب ، فلمّا خرجوا منه ، وقد شقّ ذلك على المسلمين وأفضى إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للناس : ( قولوا : نستغفر الله ، ونتوب إليه ) . ففعلوا ، فقال : ( والله إنّها للحطّة التي عُرِضَت على بني إسرائيل ، فلم يقولوها ) .
ثمّ قال رسول الله للنّاس : ( اسلكوا ذات اليمين ) في طريق يخرجه على ثنية المرار على مهبط الحديبية من أسفل مكّة .
فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلمّا رأت خيل قريش فترة قريش وأنّ رسول الله قد خالفهم عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش ينذرونهم ، وسار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى إذا سلك ثنية المرار بركت به ناقته ، فقال النّاس : حل حل . فقال : ( ما حل ؟ ) قالوا : حلأت الفضول . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حلأت ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ) .
ثمّ قال : ( والّذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون بها حرمات الله ، وفيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إيّاها ) ، ثمّ قال للناس : ( انزلوا ) فنزلوا بأقصى الحديبية على بئر قليلة الماء ، إنّما يتبرضه الناس تبرضاً ، فلم يلبث الناس أن ترجوه ، فشكا الناس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العطش فنزع سهماً من كنانته ، وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له : ناجية بن عمير بن يعمر بن دارم ، وهو سائق بدن رسول الله ، فنزل في ذلك البئر ، فغرزه في جوفه ، فجاش الماء بالريّ ، حتّى صدروا عنه ، ويقال : إنّ جارية من الأنصار أقبلت بدلوها ، وناجية في القليب يمتح على الناس ، فقالت :
قال : فبينا هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه ، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل تهامة ، فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا بعَداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت .
فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّا لم نأتِ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب ، وأضرّت بهم ، فإن شاءوا ماددناهم مدة ، ويخلّوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلاّ فقد حموا ، فوالله لأُقاتلنّهم على أمري هذا ، حتّى تنفرد سالفتي أو لينفذنّ الله أمره ) .
فانطلق حتّى أتى قريشاً ، فقال : إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولاً ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، فقال سفهاؤوهم : لا حاجة لنا في أن تحدّثنا بشيء عنه ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول . قال : سمعته يقول كذا ، وكذا . فحدّثهم بما قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقام عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : أي قوم ، ألستم بال الوالد ؟ قالوا : بلى . قال : ألستُ بالولد ؟ قالوا : بلى .
قال : فهل تتّهموني ؟ قالوا : لا . قال : أفلستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عُكاظ ، فلمّا ألحّوا عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى . قال : فإنّ هذا الرجل ، قد عرض عليكم خطة رُشد فاقبلوها ودعوني آئته ، قالوا : آتيه . فأتاه ، فجعل يكلِّم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال النبي نحواً من مقالته لبديل ، فقال عروة عند ذلك : يا محمّد ، أرأيت إن استأصلت قومك ، فهل سمعت بأحد من العرب استباح ، وقيل اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأُخرى فوالله إنّي لأرى وجوهاً وأشواباً من الناس خُلقاً أن يفرّوا ويدعوك .
فقال أبو بكر الصدِّيق ح : امصص بظر اللات واللات طاغية ثقيف التي كانوا يعبدون أنحن نفرّ وندعه ؟ فقال : مَنْ هذا ؟ قالوا : أبو بكر . فقال : أما والّذي نفسي بيده ، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك ، وجعل يكلِّم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فكلّما كلّمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله ، ومعه السيف وعلى رأسه المغفر ، فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخّر يدك عن لحيته ، فرفع عروة رأسه ، فقال : مَنْ هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة . قال : أي غدّار ، أوَلستَ أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة قد صحب قوماً في الجاهلية ، فقتلهم ، وأخذ أموالهم ، ثمّ جاء فأسلم ، فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( امّا الإسلام فقد قبلنا ، وأمّا المال ، فإنّه مال غدر لا حاجة لنا فيه ) . وإنّ عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله بعينه ، فقال : والله لن يتنخم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم ، فدلك بها وجهه ، وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له .
فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر ، وكسرى ، والنجاشي ، والله إنْ رأيت مَلكاً يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّداً ، والله إن يتنجم نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم ، فدلك بها وجهه ، وجلده ، وإذا أمرهم أمراً ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم ، وما يحدّون النظر تعظيماً له ، وإنّه قد عرض عليكم خطة رُشد فاقبلوها .
فقال رجل من كنانة : دعوني آتيه . قالوا : أتيه . فلمّا أشرف على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، قال النبي : ( هذا فلان من قوم يعظّمون البُدن ، فابعثوها له ) فبعثت له ، واستقبله قوم يلبّون ، فلمّا رأى ذلك ، قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت ، ثمّ بعثوا إليه الجليس بن علقمة بن ريان ، وكان يومئذ سيّد الأحابيش ، فلمّا رآه رسول الله قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ هذا من قوم يتألّهون ، فابعثوا بالهدي في وجهه حتّى يراه ) .
فلمّا رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، قد أكل أوتاده من طول الحبس ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إعظاماً لما رأى ، فقال : يا معشر قريش ، إنّي قد رأيت ما لا يحل صدّه ، الهدي في قلائده ، قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محلّه ، فقالوا له : اجلس ، فإنّما أنت أعرابي لا علم لك ، فغضب الجليس عند ذلك ، فقال : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم أن تصدّوا عن بيت الله من جاءه معظِّماً له ، والذي نفس الجليس بيده ، لتخلنّ بين محمّد ، وبين ما جاء له ، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد ، فقالوا له : كفّ عنّا يا جليس حتّى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به .
فقام رجل منهم يقال له : مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلمّا أشرف عليهم ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر ) ، فجعل يكلِّم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاء سهيل بن عمرو فلمّا رآه النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قد سهل لكم أمركم ، القوم يأتون إليكم بأرحامكم ، وسائلوكم الصلح ، فابعثوا الهدي وأظهروا التلبية لعلّ ذلك يليّن قلوبهم ) فلبّوا من نواحي العسكر حتّى ارتجّت أصواتهم بالتلبية ، فجاءوا ، فسألوا الصلح ، وقال سهيل : هات نكتب بيننا وبينكم كتاباً ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علي بن أبي طالب ح فقال له : ( اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ) . فقال سهيل : أما الرّحمن فلا أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللَّهُم ، كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلاّ بسم الله الرّحمن الرحيم .
فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لعليّ : ( اكتب باسمك اللَّهُم ) ، ثمّ قال : ( اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله ) . فقال سهيل : والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك .
فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( والله إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني ) . ثمّ قال لعلي : ( امح رسول الله ) ، فقال : والله لا أمحوك أبداً ، فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب ، فمحاه ، ثمّ قال : ( اكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبدالله سهيل بن عمرو ، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم من بعض ، وعلى أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّاً أو معتمراً أو يبغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله ، وعلى إنّه من أتى رسول الله من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممّن مع رسول الله لم يردّوه عليه ) .
فاشتدّ ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( من جاءهم منّا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً ، وإنّ بيننا عيبة مكفوفة ، وإنّه لا أسلال ، ولا أغلال ، وإنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد ، وعهده دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش ، وعهدهم دخل فيه ) .
فتواثبت خزاعة ، فقالوا : نحن في عقد محمّد وعهده ، وتواثبت بنو بكر ، فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وعلى أن يخلوا بيننا وبين البيت ، فنطوف به ) . فقال سهيل : ولا يتحدّث العرب إنّا أخذتنا ضغطة ، ولكن لك ذلك من العام المقبل ، فكتب : وعلى إنّك ترجع عنّا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكّة ، فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك ، فدخلتها بأصحابك ، فأقمت فيها ثلاثاً ، ولا تدخلها بالسّلاح إلاّ السيوف في القراب ، وسلاح الراكب ، وعلى أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه ، ولا تقدمه علينا ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن نسوقه ، وأنتم تردون وجوهه ) .
قال : فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، وإذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، يرسف في قيوده ، قد انفلت ، وخرج من أسفل مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فلمّا رأى سهيل أبا جندل ، قام إليه ، فضرب وجهه ، وأخذ سلسلته ، وقال : يا محمّد قد تمّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، وهذا أوّل من أقاضيك عليه ، أترده إلينا ؟ ثمّ جعل يجرّه ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أردّ إلى المشركين ، وقد جئت مسلماً لتنفرني عن ديني ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟ وكان قد عذِّب عذاباً شديداً في الله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا جندل احتسب ، فإنّ الله جاعل لك ، ولمن معك من المستضعفين فرجاً ، ومخرجاً ، إنّا قد عقدنا بيننا ، وبين القوم عقداً ، وصُلحاً ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهداً ، وإنّا لا نغدر ) . فوثب عمر بن الخطّاب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنّما هم المشركون وإنّما دم أحدهم دم كلب ، ويدني قائم السيف منه ، قال : يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ، فضنّ الرجل بأبيه .
قالوا : وقد كان أصحاب رسول الله خرجوا ، وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلمّا رأوا ذلك دخل الناسَ أمر عظيم حتى كادوا يهلكون ، وزادهم أمر أبي جندل شرّاً إلى ما بهم ، فقال عمر : والله ما شككت منذ أسلمت إلى يومئذ ، فأتيت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : ألست رسول الله ؟ قال : ( بلى ) . قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قال : ( بلى ) . قلت : فَلِمَ نعطي الدّنية في ديننا إذاً ؟
قال : ( إنّي رسول الله ، ولستُ أعصيه ، وهو ناصري ) .
قلت : ألستَ تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ، فنطوف به ؟ قال : ( بلى ) . قال : ( هل أخبرتك أنّا نأتيه العام ؟ ) . قلت : لا ، قال : ( فإنّك آتيه ومطوِّف به ) ، قال : ثمّ أتيت أبا بكر ، وقلت : أليس هذا نبيّ الله حقّاً ؟
قال : بلى . قلت : أفلسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قلت : فلِمَ يعطي الدّنية في ديننا إذاً ؟ قال : أيّها الرجل إنّه رسول الله ، وليس يعصي ربّه ، فاستمسك بغرزه حتّى تموت ، فوالله إنّه لعلى الحقّ . قلت : أوليس كان يحدِّث أنّا سنأتي البيت ، ونطوّف به ؟ قال : بلى . قال : أفأخبرك أنّك تأتيه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنّك آتيه وتطوف به . قال عمر : فما زلت أصوم وأتصدّق ، وأُصلّي ، وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به .
قالوا : فلمّا فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الكتاب أشهد رجالاً على الصلح من المسلمين ، ورجالاً من المشركين ، أبا بكر ، وعمر ، وعبد الرّحمن بن عوف ، وعبدالله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة أخا بني عبد الأشهل ، ومكرز بن حفص بن الأحنف ، وهو مشرك ، وعلي بن أبي طالب ، وكان هو كاتب الصحيفة .
فلمّا فرغ رسول الله من قصّته سار مع الهدي ، وسار الناس ، فلمّا كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية ، عرض له المشركون فردوا وجوهه ، فوقف النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حيث حبسوه ، وهي الحديبية وقال لأصحابه : ( قوموا ، فانحروا ، ثمّ احلقوا ) . قال : فوالله ما قام منهم رجل . حتّى قال ذلك ثلاث مرّات فلمّا لم يقم منهم أحد . قام فدخل على أُمّ سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس .
فقالت أُمّ سلمة : يا نبيّ الله اخرج ، ثمّ لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتّى تنحر بدنتك وتدعو حلاّقك فيحلقك . فقام فخرج ، فلم يكلِّم أحداً منهم كلمة حتى نحر بدنته ، ودعا حالقه ، فحلقه ، وكان الذي حلقه ذلك اليوم خراش بن أُمية بن الفضل الخزاعي ، فأما يوم الحديبية فحلق رجال وقصّر آخرون ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( يرحم الله المحلّقين ) . قالوا : والمقصّرين يا رسول الله ؟ قال : ( يرحم الله المحلّقين ) ، قالوا : والمقصّرين يا رسول الله ؟ قالوا : فلم ظاهرت الترحم للمحلّقين دون المقصّرين ؟ . قال : ( لأنّهم لم يشكّوا ) . قال ابن عمر : وذلك أنّه تربض القوم ، قالوا : لعلّنا نطوف بالبيت . قال ابن عبّاس : وأهدى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل في رأسه برة من فضّة ، ليغيظ المشركين بذلك ، ثمّ جاءه ( صلى الله عليه وسلم ) نسوة مؤمنات ، فأنزل الله تعالى : ) يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا إذا جاءَكم المُؤْمِنات مُهاجرات ( . . . الآية ، قال : فطلّق عمر امرأتين كانتا له في الشرك . قال : فنهاهم أن يردونهنّ وأمرهم أن ترد الصدُقات ، حينئذ ، قال رجل للزهري : أمن أجل الفروج ؟ قال : نعم ، فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأُخرى صفوان بن أمية ، ثمّ رجع النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة فجاءه أبو نصير عتبة بن أسيد بن حارثة وهو مسلم ، وكان ممّن جلس بمكّة ، فكتب فيه أزهر بن عبد عوف ، والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكتابهما ، وقالا : العهد الذي جعلت لنا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإنّ الله تعالى جاعل لك ، ولمن معك من المستضعفين فرَجاً ، ومخرجاً ) .
ثمّ دفعه إلى الرجلين ، فخرجا به حتّى إذا بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو نصير لأحد الرجلين : والله إنّي لأرى سيفك هذا جيّداً ، فاستلّه الآخر ، فقال : أجل والله إنّه لجيد . قال : أرني أنظر إليه . فأخذه وعلا به أخا بني عامر حتّى قتله ، وفرّ المولى وخرج سريعاً حتّى أتى رسول الله ( عليه السلام ) ، وهو جالس في المسجد ، فلمّا رآه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طالعاً قال : ( إنّ هذا الرجل قد رأى فزعاً ) .
فلمّا انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ويلك مالكَ ؟ ) قال : قَتل صاحبكم صاحبي . فوالله ما برح حتّى طلع أبو نصير متوشّحاً بالسيف ، حتّى وقف على رسول الله ، فقال : يا رسول الله وفت ذمّتك أسلمتني ورددتني وقيل : وذريتني إليهم ثمّ نجّاني الله منهم ، فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( ويلُ أُمّه مستعر حرب لو كان معه رجال ) .
فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم ، فخرج أبو نصير حتّى أتى سيف البحر ، ونزل بالغيّض من ناحية ذي المروة ، على ساحل البحر بطريق قريش ، الذي كانوا يأخذون إلى الشام وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكّة قول رسول الله ( عليه السلام ) لأبي نصير : ( ويل أُمّه مستعر حرب لو كان معه رجال ) . فخرج عصابة منهم إليه ، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي نصير حتّى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً منهم ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلاّ اعترضوا لهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، حتّى ضيّقوا على قريش ، فأرسلت قريش إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) يناشدونه الله ، والرحم ، لمّا أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فآواهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقدموا عليه المدينة .
قال الله تعالى : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ } بأن يقتلوهم { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ } قال ابن زيد : إثم ، وقال ابن إسحاق : غرم الدّية . وقيل : الكفّارة ؛ لأنّ الله تعالى إنّما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يعلم قاتله إيمانه الكفّارة دون الدّية ، فقال جلّ ثناؤه :
{ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [ النساء : 92 ] .
ولم يوجب على قاتل خطأ دية ، وقيل : هو أنّ المشركين يعيبونكم ويقولون : قتلوا أهل دينهم . ( والمعرّة ) المشقّة ، وأصلها من العرّ وهو الحرب لإذن ذلك في دخولها ، ولكنّه حال بينكم ، وبين ذلك { لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } دينه الإسلام { مَن يَشَآءُ } من أهل مكّة قبل أن تدخلوها ، هكذا نظم الآية وحكمها ، فحذف جواب ( لولا ) استغناء بدلالة الكلام عليه ، وقال بعض العلماء : قوله : ( لعذّبنا ) جواب لكلامين : أحدهما { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } ، والثاني : { لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي تميّزوا .
ثمّ قال : { لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } يعني المؤمنين ، والمؤمنات { فِي رَحْمَتِهِ } لكن جنّته . قال قتادة : في هذه الآية إنّ الله يدفع بالمؤمنين عن الكفّار ، كما يدفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكّة .
أخبرنا أبو عبد الله بن منجويه الدينوري ، حدّثنا أبو علي بن حبش المقري ، حدّثنا أبو الطيّب أحمد بن عبد الله بن بجلي الدارمي بإنطاكية ، حدّثني أحمد بن يعقوب الدينوري ، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن محمّد الأنصاري ، " حدّثني محمّد بن الحسن الجعفري ، قال : سمعت جعفر ابن محمّد يحدِّث ، عن أبيه ، عن جدّه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قول الله تعالى : { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } قال : " هم المشركون من أجداد النبيّ صلى الله عليه وسلم ممّن كان بعده في عصره ، كان في أصلابهم المؤمنون ، فلو تزيّل المؤمنون عن أصلاب الكفّار يعذب الله عذاباً أليماً " إذ من صلة قوله تعالى : { لَعَذَّبْنَا }