الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

وقوله سبحانه : { هُمُ الذين كَفَرُواْ } يعني : أهل مكة { وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } أي : منعوكم من العمرة ، وذلك أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى الحديبية في ذي القعدة سنة ست يريد العمرة وتعظيم البيت وخرج معه بمائة بدنة وقيل بسبعين فأجمعت قريش لحربه وغوروا المياه التي تقرب من مكة فجاء صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمراً حتى كفى الجيش ثم بعث صلى الله عليه وسلم إليهم عثمان كما تقدم وبعثوا هم رجالاً آخرهم سهيل بن عمرو وبه انعقد الصلح على أن ينصرف صلى الله عليه وسلم ويعتمر من قابل فهذا صدهم إياه وهو مستوعب في السير ، { والهدي } معطوف على الضمير في ( صدوكم ) أي وصدوا الهدي ، ( ومعكوفاً ) حال ، ومعناه : محبوساً ، تقول عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته ، وحبس الهدي من قبل المشركين هو بصدهم ، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونَظَرِهِمْ في أَمرهم ؛ لأجل أَنْ يبلغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ ، وهو مَكَّةُ والبَيْتُ ، وهذا هو حَبْسُ المسلمين ، وذكر تعالى العِلَّةَ في أَنْ صَرَفَ المسلمين ، ولم يمكنهم من دخول مَكَّةَ في تلك الوجهة ، وهي أَنَّهُ كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خَفِيَ إيمانهم ، فَلَوِ استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين ؛ قال قتادة : فدفع اللَّه عن المشركين بأولئك المؤمنون ، والوَطْءُ هنا : الإهلاك بالسيف وغيره ؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " اللّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ " قال أبو حيَّان : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ } جوابها محذوف ؛ لدلالة الكلام عليه ، أي : ما كَفَّ أيديَكم عنهم ، انتهى . والمَعَرَّةُ : السوء والمكروه اللاحق ؛ مأخوذ من العُرِّ والعُرَّة وهو الجَرَبُ الصَّعْبُ اللاَّزِمُ ، واختلف في تعيين هذه المَعَرَّةِ ، فقال الطبريُّ : وَحَكَاهُ الثعلبيُّ : هي الكَفَّارة ، وقال مُنْذِرٌ : المَعَرَّة : أنْ يعيبهم الكُفَّار ، ويقولوا : قتلوا أهل دينهم ، وقال بعضُ المفسِّرين : هي المَلاَمُ ، والقولُ في ذلك ، وتألمَ النفْسِ في باقي الزمان ، وهذه أقوالٌ حِسَانٌ ، وجواب ( لولا ) محذوفٌ ، تقديره : لولا هؤلاءِ لدخلتم مكَّةَ ، لكن شرَّفْنَا هؤلاءِ المؤمنِينَ بأنْ رَحِمْنَاهُمْ ، ودفعنا بسببهم عن مَكَّةَ { ليدخل اللَّه } أي : لِيُبَيِّنَ للناظر أنَّ اللَّه يدخُلَ من يشاء في رحمته أو ، أي : لِيقعَ دخولهم في رحمة اللَّه ودفعه عنهم .

( ت ) : وقال الثَّعْلَبِيُّ : قوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } يحتمل أنْ يريد بغير علم مِمَّنْ تكلَّم بهذا ، والمَعَرَّةُ : المشقة { لِيُدْخِلَ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ } أي : في دين الإِسلام { مَنْ يَشَاءُ } : من أهل مكة قبل أن تدخلوها ، انتهى .

وقوله تعالى : { لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي : لو ذهبوا عن مَكَّةَ ؛ تقول : زِلْتُ زيداً عن موضعه إزالة ، أي : أذهبته ، وليس هذا الفعل من زَالَ يَزُولُ ، وقد قيل : هو منه ، وقرأ أبو حياةَ وقتادة : ( تَزَايَلُوا ) بألف ، أي : ذهب هؤلاء عن هؤلاء ، وقال النَّحَّاس : وقد قيل : إنَّ قوله : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } الآية : يريدُ : مَنْ في أصلاب الكافرين مِمَّنْ سيُؤْمِنُ في غابر الدهر ، وحكاه الثعلبيُّ والنَّقَّاش عن عليِّ بْنِ أبي طالب رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً .