ثم بين ذلك بقوله تعالى : { همُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } وهذا أشارة إلى أن الكف لم يكن الأمر ( فيهم{[51788]} ) لأنهم كفروا وصدوكم وأحصروا وكل ذلك يقتضي قتَالَهُم ، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا واصطلحوا ، ولم يكن بينهما خلاف ولا نزاع بلا الاختلافُ والنزاعُ باقٍ مستمر ؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوكم فازدادُوا كفراً وعداوةً ، وإنما ذلك للرجال المؤمنينَ والنِّساء المؤمنات{[51789]} .
قوله : «وَالهَدْيَ » العامة على نصبه ، والمشهور أنه نسق على الضمير المنصوب في «صَدُّوكُمْ{[51790]} » وقيل : نصب على المعية . وفيه ضعف ، لإمكان العطف{[51791]} . وقرأ أبو عمرو في رواية بجره عطفاً على «المَسْجِدِ الحَرَامِ »{[51792]} . ولا بد من حذف مضاف ، أي وعَنْ نَحْرِ الهَدْي{[51793]} ، وقرئ برفعه على أنه مرفوع بفعل مقدر لم يسم فاعله أي وصُدَّ الهَدْيُ{[51794]} .
والعامة على فتح الهاء وسكون الدال ، وروي عن أبي عمرو وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء{[51795]} . وحكى ابن خالويه ثلاث لغات الهَدْي وهي الشهيرة لغة قريش ، والهَدِيّ والهَدَا{[51796]} .
قوله : «مَعْكُوفاً » حال من الهدى أي محبوساً ، يقال : عَكَفْتُ الرَّجُلَ عن حاجته .
وأنكر الفارس تعدية «عكف » بنفسه{[51797]} ، وأثبتها ابن سِيدَهْ والأزهريّ وغيرُهُمَا{[51798]} . وهو ظاهر القرآن لبناء اسم مفعول منه .
قوله : { أَن يَبْلُغَ } فيه أوجه :
أحدها : أنه على إسقاط الخافض ، أي «عَنْ » أو «مِنْ أن » وحينئذ يجوز في هذا الجار المقدر أن يتعلق «صَدُّوكُمْ » وأن يتعلق ب «مَعْكُوفاً » أي محبوساً عن بلوغ مَحِلِّهِ .
الثاني : أنه مفعول من أجله ، وحينئذ يجوز أن يكون علة للصد ، والتقدير : صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله وأن يكون علة ل «مَعْكُوفاً » أي لأجل أن يبلغ محله ، ويكون الحبس من المسلِمِينَ{[51799]} .
الثالث : أنه بدل من «الهدي » بدل اشتمال أي صدوا بلوغ الهدي محله .
( فصل{[51800]}
معنى الآية { هُمُ الذين كَفَرُواْ } يعنى كفار مكة «وَصَدُّوكُمْ » منعوكم { عَنِ المسجد الحرام } أن تطوفوا فيه «وَالهَدْيَ » أي وصدوا الهدي وهي البُدْنُ التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعينَ بدنةً «مَعْكُوفاً » محبوساً ، يقال : عَكَفَهُ عَكْفاً إذا حبسه ، وعُكُوفاً ، كما يقال : رَجَعَ رَجْعاً ورُجُوعاً { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } مَنْحَرَهُ{[51801]} ، وحيث يحِلّ نحرُه يعني الحرم . ثم قال : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ } يعني المستضعفين بمكة{[51802]} ) .
قوله : { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة للصِّنْفين ، وغلب الذكور ، وقوله : { أَن تَطَئُوهُمْ } يجوز أن يكون بطلاً من «رجال ونساء » ، وغلب الذكور كما تقدم وأن يكون بدلاً من مفعول تَعْلَمُوهُمْ ، فالتقدير على الأول : ولولا وطءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين ، وتقدير الثاني : لم تَعْلَمُوا وَطْأَهُمْ ، والخبر محذوف تقديره : ولولا نساء ورجال موجودون أو بالحَضْرَةِ{[51803]} .
( وأما جواب{[51804]} «لولا » ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه محذوف ، لدلالة جواب «لو » عليه .
والثاني : أنه مذكور وهو «لَعَذَّبْنَا » وجواب «لو » هو المحذوف فحذف من الأول لدلالة الثاني ، ومن الثاني لدلالة الأول .
والثالث : أن «لعذبنا » جوابهما معاً . وهو بعيد إن أراد حقيقة ذلك{[51805]} .
وقال الزمخشري قريباً من هذا فإنه قال : ويجوز أن يكون : «لَوْ تَزَيَّلُوا » كالتكرير لِلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون «لَعَذَّبْنَا » هو الجواب{[51806]} .
ومنع أبو حيان مرجعهما لمعنى واحد ، قال : لأن ما تعلق به الأَوَّل غيرُ ما تعلَّق به الثاني ){[51807]} .
المعنى «لم تعلموهم » لم تَعْرِفُوهُم { أَن تَطَئُوهُمْ } بالقتل وتُوقعوا بهم . { فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ } . قال ابن زيد : إثم ذلك لأنكم ربما تقتلوهم فيلزمكم الكفَّار ، وهي دليل الإثم ، لأن الله تعالى أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدِّيَةِ ؛ قال تعالى : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] . وقال ابن إسحاق : غُرم الدية . وقيل : إن المشركين يعيبوكم ويقولون قتلوا أهل دينهم وفعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم والمَعَرَّةُ السُّبَّة يقول لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنينَ ونساءً مؤمناتٍ لا تعلموهم فيلزمكم به كفارة ويلحقكم به سُبَّة لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك{[51808]} .
قوله : «فَتُصِيبَكُمْ » نَسَقٌ على { أَن تَطَئُوهُمْ } وقوله «بغير علم » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مَعَرَّة » وأن يكون حالاً من مفعول «تُصيبُكُمْ »{[51809]} وقال أبو البقاء : مِنَ الضمير المجرور يعني في «منهم »{[51810]} . ولا يظهر معناه . أو أن يتعلق «بتصيبكم »{[51811]} أو أن يتعلق «بتطئوهم »{[51812]} ؛ أي تطئوهم بغير علم .
( فإن قيل{[51813]} : هذا تكرار ، لأنه إن قلنا : هو بدل عن الضمير يكون التقدير : لم تعلموا أن تَطَئُوهُمْ بغير علم فيلزم تكرار بغَيرِ عِلْمٍ لحصوله بقوله : لَمْ تَعْلَمُوهُمْ ؟ .
فالجواب : أن يقال : قوله : «بِغَيْرِ عِلْمٍ » هو في موضعه أي فتصيبكم منهم مَعَرَّةٌ بغير علم من ( الذي{[51814]} ) يعرّكم ويعيبُ عليكم ، يعني إن وَطَأتُمُوهُمْ غير عالمين يعركم ( مَسبَّة{[51815]} ) الكفار «بغير علم » أي بجهل لأنهم لا يعلمون أنكم معذورون فيه . أو يقال تقديره : لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فيكون الوطء الذي يحصل بغير علم معذورين فيه . أو نقول : المعرَّة قسمان :
أحدهما : ما يحصل من القتل العمد العدوان ممن هو غير عالم بحال المحِلّ .
والثاني : ما حصل من القتل خطأ وهو عند{[51816]} عدم العلم فقال : تصبيكم منهم معرة بغير علم لا التي تكون عند{[51817]} العلم ) .
والوَطْءُ هنا عبارة عن القَتْلِ والدَّوْسِ ، قال عليه الصلاة والسلام : «اللَّهُمَ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ »{[51818]} وأنشدوا :
4495 وَوَطِئْتَنَا وَطْاً عَلَى حَنَقٍ *** وَطْءَ المُقَيَّدِ ثَابِتَ الهَرَمِ{[51819]}
قوله : «لِيُدْخِلَ اللهُ » متعلق بمقدر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله{[51820]} . وقال البغوي : اللام في ليدخل متعلق بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام يعني ليدخل الله في رحمته أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح قبل أن يدخلوها{[51821]} .
قوله : «لوْ تَزَيَّلُوا » : قرأ بانُ أبي عَبْلَةَ وأبو حيوة وابنُ عَوْن{[51822]} تَزَايَلُوا{[51823]} على تَفَاعَلُوا .
والضمير في تزايلوا يجوز أن يعود على المؤمنين فقط ، أو على الكافرين ، أو على الفريقين . والمعنى لو تمَيَّزَ هؤلاءِ من هؤلاءِ لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً بالسَّبْيِ والقتْل بأيديكم .