{ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } ، والألف فيه للمبالغة في الحمد ، وله وجهان : أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل ، أي الأنبياء كلهم حمادون لله عز وجل ، وهو أكثر حمداً لله من غيره ، والثاني : أنه مبالغة من المفعول ، أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثرهم مناقب وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها ، { فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } .
{ 6-9 } { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } .
يقول تعالى مخبرا عن عناد بني إسرائيل المتقدمين ، الذين دعاهم عيسى ابن مريم ، وقال لهم : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } أي : أرسلني الله لأدعوكم إلى الخير وأنهاكم عن الشر ، [ وأيدني بالبراهين الظاهرة ] ، ومما يدل على صدقي ، كوني ، { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : جئت بما جاء به موسى من التوراة والشرائع السماوية ، ولو كنت مدعيا للنبوة ، لجئت بغير ما جاءت به المرسلون ، ومصدقا لما بين يدي من التوارة أيضا ، أنها أخبرت بي وبشرت ، فجئت وبعثت مصداقا لها { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } وهو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي الهاشمي .
فعيسى عليه الصلاة والسلام ، كالأنبياء{[1074]} يصدق بالنبي السابق ، ويبشر بالنبي اللاحق ، بخلاف الكذابين ، فإنهم يناقضون الأنبياء أشد مناقضة ، ويخالفونهم في الأوصاف والأخلاق ، والأمر والنهي { فَلَمَّا جَاءَهُمْ } محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى { بِالْبَيِّنَاتِ } أي : الأدلة الواضحة ، الدالة على أنه هو ، وأنه رسول الله [ حقا ] .
{ قَالُوا } معاندين للحق مكذبين له { هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } وهذا من أعجب العجائب ، الرسول الذي [ قد ] وضحت رسالته ، وصارت أبين من شمس النهار ، يجعل ساحرا بينا سحره ، فهل في الخذلان أعظم من هذا ؟ وهل في الافتراء{[1075]} أعظم من هذا الافتراء ، الذي نفى عنه ما كان معلوما من رسالته ، وأثبت له ما كان أبعد الناس منه ؟ .
ثم ذكر - سبحانه - جانبا مما قاله عيسى - عليه السلام - لبنى إسرائيل ، فقال - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى . . . } .
أي : واذكر - أيضا - أيها الرسول الكريم - وذكِّر الناس ليعتبروا ويتعظوا ، وقت أن قال عيسى ابن مريم ، مخاطبا من أرسله الله إليهم بقوله : { يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم } لكى أخرجكم من ظلمات الكفر والشرك ، إلى نور الإيمان والتوحيد .
ولم يقل لهم يا قوم - كما قال لهم - موسى - عليه السلام - بل قال : { يابني إِسْرَائِيلَ } لأنه لا أب له فيهم ، وإن كانت أمه منهم ، والأنساب إنما تكون من جهة الآباء ، لا من جهة الأمهات .
وفى قوله : { إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم } إخبار صريح منه لهم ، بأنه ليس إلها وليس ابن إله - كما زعموا وإنما هو عبد الله ورسوله .
وقوله { مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } جملة حالية لإثبات حقيقة رسالته ، وحضهم على تأييده وتصديقه والإيمان به .
أي : إنى رسول الله - تعالى - إليكم بالكتاب الذى أنزله الله علىَّ وهو الإنجيل ، حال كونى مصدقا للكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - وهذا الكتاب هو التوراة ، وما دام الأمر كذلك فمن حقى عليكم ، أن تؤمنوا به ، وأن تتبعونى ، لأنى لم آتكم بشىء يخالف التوراة ، بل هى مشتملة على ما يدل على صدقى ، فكيف تعرضون عن دعوتى .
وقوله : { مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ } فيه نوع مجاز ، لأن ما بين يدى الإنسان هو ما أمامه ، فسمى ما مضى كذلك لغاية ظهوره واشتهاره . واللام فى " لما " لتقوية العامل ، نحوه قوله - تعالى - { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } وقوله - سبحاه - : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ } معطوف على ما قبله .
والتبشير : الإخبار بما يسر النفس ويبهجها ، بحيث يظهر أثر ذلك على بشرة الإنسان ، وكان إخباره بأن نبيا سيأتى من بعده اسمه تبشيرا ، لأنه سيأتيهم بما يسعدهم ، ويرفع الأغلال عنهم ، كما قال - تعالى - : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ولفظ { أَحْمَدُ } اسم من أسماء نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهو علم منقول من الصفة ، وهذه الصفة يصح أن تكون مبالغة من الفاعل . فيكون معناها : أنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر حمدا لله - تعالى - من غيره .
ويصح أن تكون من المفعول ، فيكون معناها أنه يحمده الناس لأجل ما فيه من خصال الخير ، أكثر مما يحمدوه غيره .
قال الآلوسى : وهذا الاسم الجليل ، علم لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وصح من رواية مالك ، والبخارى ، ومسلم . . . عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لى أسماء ؛ أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذى يحشر الناس على قدمى ، وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر ، وأنا العاقب " .
وبشارة عيسى - عليه السلام - بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ثابتة ثبوتا قطعيا بهذه الآية الكريمة ، وإذا كانت بعض الأناجيل قد خلت من هذه البشارة ، فبسبب ما اعتراها من تحريف وتبديل على أيدى علماء أهل الكتاب .
ومع ذلك فقد وجدت هذه البشارة فى بعض الأناجيل ، كإنجيل يوحنا ، فى الباب الرابع عشر ، قال الإمام الرازى : فى الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا : وأنا أطلب لكم إلى أبى ، حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد .
والفارقليط هو روح الحق واليقين .
ومنهم من يرى أن لفظ فارقليط معناه باليونانية : أحمد أو محمد .
ومن أصرح الأدلة على أن صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - موجودة فى التوراة والإنجيل ، قوله - تعالى - { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } وقوله - سبحانه - : { فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } بيان لموقف بنى إسرائيل الجحودى من أنبياء الله - تعالى - .
والضمير فى قوله : { جَاءَهُم } يرى بعضهم أنه يعود لعيسى ، ويرى آخرون أنه يعود لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أى : فلما جاء عيسى - عليه السلام - أو محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى إسرئيل بالآيات البينات الدالة على صدقه ، قالوا على سبيل العناد والجحود : هذا سحر واضح فى بابه . لا يخفى على أى ناظر أو متأمل .
ومن المعروف أن بنى إسرائيل قد كذبوا عيسى - عليه السلام - وكفروابه ، ونسبوا إلى أمه الطاهرة ، ما هى بريئة منه ، ومنزهة عنه .
كما كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكفروا به ، وصدق الله إذ يقول : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } ووصفوا ما جاء به بأنه سحر مبين ، على سبيل المبالغة فكأنهم يقولون إن ما جاء به هو السحر بعينه ، مع أنهم يعرفون أن ما جاء به هو الحق كما يعرفون أبناءهم ، ولكن ما جلبوا عليه من جحود وعناد ، حال بينهم وبين النطق بكلمة الحق .
ثم جاء عيسى بن مريم . جاء يقول لبني إسرائيل :
( يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم ) . .
فلم يقل لهم : إنه الله ، ولا إنه ابن الله ، ولا إنه أقنوم من أقانيم الله .
( مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) . .
في هذه الصيغة التي تصور حلقات الرسالة المترابطة ، يسلم بعضها إلى بعض ، وهي متماسكة في حقيقتها ، واحدة في اتجاهها ، ممتدة من السماء إلى الأرض ، حلقة بعد حلقة في السلسلة الطويلة المتصلة . . وهي الصورة اللائقة بعمل الله ومنهجه . فهو منهج واحد في أصله ، متعدد في صوره ، وفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها ، ووفق تجاربها ورصيدها من المعرفة حتى تبلغ مرحلة الرشد العقلي والشعوري ، فتجيء الحلقة الأخيرة في الصورة الأخيرة كاملة شاملة ، تخاطب العقل الراشد ، في ضوء تلك التجارب ، وتطلق هذا العقل يعمل في حدوده ، داخل نطاق المنهج المرسوم للإنسان في جملته ، المتفق مع طاقاته واستعداداته .
وبشارة المسيح بأحمد ثابتة بهذا النص ، سواء تضمنت الأناجيل المتداولة هذه البشارة أم لم تتضمنها . فثابت أن الطريقة التي كتبت بها هذه الأناجيل والظروف التي أحاطت بها لا تجعلها هي المرجع في هذا الشأن .
وقد قرئ القرآن على اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وفيه : ( النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) . . وأقر بعض المخلصين من علمائهم الذين أسلموا كعبدالله بن سلام بهذه الحقيقة ، التي كانوا يتواصون بتكتمها !
كما أنه ثابت من الروايات التاريخية أن اليهود كانوا ينتظرون مبعث نبي قد أظلهم زمانه ، وكذلك بعض الموحدين المنعزلين من أحبار النصارى في الجزيرة العربية . ولكن اليهود كانوا يريدونه منهم . فلما شاء الله أن يكون من الفرع الآخر من ذرية إبراهيم ، كرهوا هذا وحاربوه !
وعلى أية حال فالنص القرآني بذاته هو الفيصل في مثل هذه الأخبار . وهو القول الأخير . .
المعنى : «واذكر يا محمد إذ قال عيسى » ، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لكفار قريش ، وحكي عن موسى أنه قال : { يا قوم } [ الصف : 5 ] وعن عيسى أنه قال : { يا بني إسرائيل } من حيث لم يكن له فيهم أب ، و { مصدقاً } ، حال مؤكدة ، { ومبشراً } عطف عليه ، وقوله تعالى : { يأتي من بعدي } ، وقوله : { اسمه أحمد } جملتان كل واحدة منهما في موضع خفض على الصفة لرسول ، و { أحمد } فعل سمي به ، ويحتمل أن يكون أفعل كأسود ، وهو في هذه الآية الكلمة لا الشخص ، وليست على حد قولك جاءنا أحمد لأنك ها هنا أوقعت الاسم على مسماه ، وفي الآية إنما أراد : اسمه هذه الكلمة ، وذكر أبو علي هذا الغرض ومنه ينفك إعراب قوله تعالى { يقال له إبراهيم }{[11076]} [ الأنبياء : 60 ] ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر : «بعديَ » بفتح الياء ، وقوله تعالى : { فلما جاءهم بالبينات } ، الآية يحتمل أن يريد { عيسى } ، وتكون الآية وما بعدها تمثيلاً بأولئك لهؤلاء المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون التمثيل قد فرغ عند قوله : { اسمه أحمد } ، ثم خرج إلى ذكر { أحمد } لما تطرق ذكره ، فقال مخاطبة للمؤمنين ، { فلما جاء } أحمد هؤلاء الكفار { قالوا هذا سحر مبين } ، و «البينات » هي الآيات والعلامات ، وقرأ جمهور الناس : «هذا ساحر » إشارة إلى ما جاء به ، وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش وابن وثاب : «هذا سحر » إشارة إليه بنفسه ، وقوله تعالى : { ومن أظلم } تعجيب وتقرير أي لا أحد أظلم منه ، و «افتراء الكذب » هو قولهم : { هذا سحر } ، وما جرى مجرى هذا من الأقوال التي هي اختلاق وبغير دليل .