قوله تعالى : { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء } - قرأ حمزة و الكسائي بالتاء على الخطاب ، وكذلك في سورة العنكبوت ، والآخرون بالياء ، خبراً عن الذين مكروا السيئات - إلى ما خلق الله من شيء من جسم قائم ، له ظل ، { يتفيأ } ، قرأ أبو عمرو ، و يعقوب ، بالتاء والآخرون بالياء . { ظلاله } أي : تميل وتدور من جانب إلى جانب ، فهي في أول النهار على حال ، ثم تتقلص ثم تعود إلى آخر النهار إلى حال أخرى سجداً لله ، فميلانها ودورانها : سجودها لله عز وجل . ويقال للظل بالعشي : فيء ، لأنه فاء ، أي : رجع من المغرب إلى المشرق ، فالفيء الرجوع . والسجود الميل . يقال : سجدت النخلة إذا مالت . قوله عز وجل : { عن اليمين والشمائل سجداً لله } ، قال قتادة و الضحاك : أما اليمين : فأول النهار ، والشمال : آخر النهار ، تسجد الظلال لله . وقال الكلبي : الظل قبل طلوع الشمس عن يمينك وعن شمالك وقدامك وخلفك ، وكذلك إذا غابت ، فإذا طلعت كان من قدامك ، وإذا ارتفعت كان عن يمينك ، هم بعده كان خلفك ، فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك ، فهذا تفيؤه ، وتقلبه ، وهو سجوده . وقال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله . وقيل : المراد من الظلال : سجود الأشخاص . فإن قيل لم وحد اليمين وجمع الشمائل ؟ قيل : من شأن العرب في اجتماع العلامتين الاكتفاء بواحدة ، كقوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } [ البقرة -7 ] ، وقوله : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة-257 ] . وقيل : اليمين يرجع إلى قولة : { ما خلق الله } . ولفظ " ما " واحد ، والشمائل : يرجع إلى المعنى . { وهم داخرون } ، صاغرون .
{ 48 - 50 ْ } { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ْ }
يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا ْ } أي : الشاكون في توحيد ربهم وعظمته وكماله ، { إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ْ } أي : إلى جميع مخلوقاته وكيف تتفيأ أظلتها ، { عَن الْيَمِينِ ْ } وعن { الشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ ْ } أي : كلها ساجدة لربها خاضعة لعظمته وجلاله ، { وَهُمْ دَاخِرُونَ ْ } أي : ذليلون تحت التسخير والتدبير والقهر ، ما منهم أحد إلا وناصيته بيد الله وتدبيره عنده .
قرأ جمهور القراء { أَوَلَمْ يَرَوْاْ . . } وقرأ حمزة والكسائى : { أو لم تروا } بالتاء ، على الخطاب ، على طريقة الالتفات .
وقوله { من شئ } بيان للإِبهام الذى فى " ما " الموصولة فى قوله { إلى مَا خَلَقَ الله } .
وقوله { يتفيؤ } من التفيؤ ، بمعنى الرجوع . يقال : فاء فلان يفئ إذا رجع وفاء الظل فيئا ، إذا عاد بعد إزالة ضوء الشمس له . وتفيؤ الظلال : تنقلها من جهة إلى أخرى بعد شروق الشمس ، وبعد زوالها .
والظلال : جمع ظل ، وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور .
و { داخرون } من الدخور بمعنى الانقياد والخضوع ، يقال : دخر فلان يدخر دخورا ، ودخر - بزنة فرح - يدخر دخرا ، إذا انقاد لغيره وذل له .
والمعنى : أعمى هؤلاء المشركون الذين مكروا السيئات ، ولم يروا ما خلق الله - تعالى - من الأشياء ذوات الظلال - كالجبال والأشجار وغيرها - وهى تتنقل ظلالها . من جانب إلى جانب ، ومن جهة إلى جهة ، باختلاف الأوقات وهى فى كل الأحوال والأوقات منقادة لأمر الله - تعالى - جارية على ما أراده لها من امتداد وتقلص وغير ذلك ، خاضعة كل الخضوع لما سخرت له .
قال ابن كثير - رحمه الله - : يخبر - تعالى - عن عظمته وجلاله ، الذى خضع له كل شئ ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها ، جمادها وحيواناتها ومكلفوها من الإِنس والجن والملائكة ، فأخبر أن كل ماله ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال - أى بكرة وعشيا - ، فإنه ساجد بظله لله - تعالى - .
والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَوَلَمْ يَرَوْاْ . . } للإنكار والتوبيخ ، والرؤية بصرية .
أى : قد رأوا كل ذلك ، ولكنهم لم ينتفعوا بما رأوا ، ولم يتعظوا بما شاهدوا .
والمراد بقوله : { عَنِ اليمين والشمآئل } جهتهما ، وليس المراد التقييد بذلك ، إذ أن الظل أحيانا يكون أمام الإِنسان وأحيانا يكون خلفه . وإنما ذكر اليمين والشمائل اختصارا للكلام .
وأفرد اليمين ، لأن المراد به جنس الجهة ، كما يقال : المشرق ، أى جهة المشرق ، وجمع { الشمائل } - مفرده شمال - ، لأن المقصود تعدد هذه الجهة باعتبار تعدد أصحابها .
قال الشوكانى : قال الفراء : وحد اليمين ، لأنه أراد واحدا من ذوات الأظلال ، وجمع الشمائل ، لأنه أراد كلها .
وقال الواحدى : وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازا فى اللفظ ، كقوله { ويولون الدبر } ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع . وقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتى جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد ، كما فى قوله - تعالى - { وَجَعَلَ الظلمات والنور . . . } وقوله - سبحانه - : { سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } . حال من { ظلاله } أى : حال كون هذه الأشياء وظلالها سجدا لله - تعالى - ، وحال كون الجميع لا يمتنع عن أمر الله - تعالى - ، بل الكل خاضع له - سبحانه - كل الخضوع .
وجاء قوله - تعالى - : { وهم داخرون } . بصيغة الجمع الخاصة بالعقلاء ، تغليبا لهم على غيرهم
أفأمن الذين مكروا السيئات أن يأخذهم الله ؟ فهم لاجون في مكرهم سادرون في غيهم لا يثوبون ولا يتقون .
ذلك والكون من حولهم بنواميسه وظواهره يوحي بالإيمان ، و يوحي بالخشوع : ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ) . .
ومشهد الظلال تمتد وتتراجع ، تثبت وتتمايل ، مشهد موح لمن يفتح قلبه ، ويوقظ حسه ، ويتجاوب مع الكون حوله .
والسياق القرآني يعبر عن خضوع الأشياء لنواميس الله بالسجود - وهو أقصى مظاهر الخضوع - ويوجه إلى حركة الظلال المتفيئة - أي الراجعة بعد امتداد - وهي حركة لطيفة خفية ذات دبيب في المشاعر وئيد عميق .
{ أوَلم يروا إلى ما خلق الله من شيء } استفهام إنكار أي قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه ، وما موصولة مبهمة بيانها . { يتفيّأ ظلالُه } أي أو لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيئة . وقرأ حمزة والكسائي " تَروْا " بالتاء وأبو عمرو " تتفيؤ " بالتاء . { عن اليمين والشمائل } عن أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها ، استعارة من يمين الإنسان وشماله ، ولعل توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ والمعنى كتوحيد الضمير في ظلاله وجمعه في قوله : { سُجّداً لله وهم داخرون } وهما حالان من الضمير في ظلاله ، والمراد من السجود الاستسلام سواء كان بالطبع أو الاختيار ، يقال سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدا حال من الظلال { وهم داخرون } حال من الضمير . والمعنى يرجع الظلال بارتفاع الشمس وانحدارها ، أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى من جانب إلى جانب منقادة لما قدر لها من التفيؤ ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد والأجرام في أنفسها أيضا داخرة أي صاغرة منقادة لأفعال الله تعالى فيها ، وجمع { داخرون } بالواو لأن من جملتها من يعقل ، أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء . وقيل المراد ب " اليمين والشمائل " يمين الفلك وهو جانبه الشرقي لأن الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع والسطوع وشماله هو الجانب الغربي المقابل له من الأرض ، فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض ، وعند الزوال تبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض .
وقوله { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء } الآية ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «أو لم يروا » بالياء على لفظ الغائب ، وكذلك في العنكبوت{[7320]} ، فهي جارية على قوله : { أو يأخذهم } ، وقوله : { أو يأتيهم } وقوله : { لا يشعرون } ، ورجحها الطبري ، وقرأ حمزة والكسائي «أولم تروا » بالتاء في الموضعين ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن ، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما : أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أولم تروا ، والوجه الآخر أن يكون خطاباً عاماً لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفاً ، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق ، واختلف عنه في العنكبوت ، وقوله { من شيء } لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله { يتفيأ ظلاله } لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل ، والرؤية هنا هي رؤية القلب ، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين ، وقرأ أبو عمرو وحده «تتفيأ » بالتاء من فوق ، وهي قراءة عيسى ويعقوب ، وقرأ الجمهور «يتفيأ » ، قال أبو علي : إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان ، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال ، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها ، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام ، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس ، فيعم ، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب ، وكذلك قول حميد بن ثور :
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه . . . ولا الفيء من برد العشي تذوق{[7321]}
فهو على المهيع{[7322]} ، وكذلك قول علقمة بن عبدة : [ الطويل ]
تَتَبع أفياء الظلال عشية . . . على طرق كأنهن سيوف
يفيء عليها الظل{[7323]} . . . وأما النابغة الجعدي فقال : [ الخفيف ]
فسلام الإله يغدو عليهم . . . وفيء الفردوس ذات الظلال{[7324]}
فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع ، وقال رؤبة بن العجاج : يقال بعد الزوال فيء وظل ، ولا يقال قبله إلا ظل فقط ، ويقال فاء الظل أي رجع من النقصان إلى الزيادة ، ويعدى فاء بالهمزة كقوله تعالى : { ما أفاء الله }{[7325]} [ الحشر : 7 ] ويعدى بالتضعيف فيقال أفاءه الله وفياه الله وتفيأ مطاوع فيا ، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب ، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره ، فكأن الآية جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل ، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملاً على لفظ ما أو لفظ شيء ، وهو في المعنى لجمع ، وقرأ الثقفي «ظُلَلُه » بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء ، وقوله { عن اليمين والشمائل } أفرد اليمين وهو يراد به الجمع ، فكأنه للجنس ، والمراد عن الأيمان والشمائل ، كما قال الشاعر : [ جرير ]
الواردون ونِيمٌ في ذرى سبأ . . . قد عض أعناقهم جلد الجواميس{[7326]}
ففي الشامتين الصخر إن كان هدني . . . رزية شبلي مخدر في الضراغم{[7327]}
والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك ، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط ، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر ، أي تقدره ذا يمين وشمال ، وتقدره يستقبل أي جهة شئت ، ثم تنظر فيه فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال ، وذلك في كل أقطار الدنيا ، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية ، وفيه تجوز واتساع ، ومن ذهب إلى أن { اليمين } من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال ، وهو قول قتادة وابن جريج ، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب ، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب ، وما قال بعض الناس من أن { اليمين } أول وقعة للظل بعد الزوال ، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال ، ولذلك جمع { الشمائل } ، وأفرد { اليمين } ، فتخليط من القول يبطل من جهات ، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً ، ثم بعث الله الشمس عليه دليلاً فقبض إليه الظل .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة ، وظلال متقطعة ، فهي شمائل كثيرة ، وكأن الظل عن اليمين متصلاً واحداً عاماً لكل شيء ، وفي هذا القول تجوز في تفيأ ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبداً مندفعاً عن اليمين إلى الزوال ، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل ، وقالت فرقة «الظلال » هنا الأشخاص هي المراد أنفسها ، والعرب تعبر أحياناً عن الأشخاص بالظل ، ومنه قول عبدة بن الطيب : [ البسيط ]
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية . . . وفار للقوم باللحم المراجيل{[7328]}
وإنما تنصب الأخبية ، ومنه قول الآخر : [ الطويل ]
تتبع أفياء الظلال عشية . . . {[7329]} أي أفياء الأشخاص .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله محتمل غير صريح ، وإن كان أبو علي قد قدره ، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة ، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر ، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت ، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة ، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود ، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها . . . كما سجدت نصرانة لم تحنف{[7330]}
والداخر المتصاغر المتواضع ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
فلم يبق إلا داخر في مُخَيِّس . . . ومنجحر في غير أرضك في حجر{[7331]}