فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

{ أَوَلَمْ يَرَوْا إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيء } لما خوّف سبحانه الماكرين بما خوّف ، أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي ومكانهما ، والاستفهام في { أَوَلَمْ يَرَوْا } للإنكار ، و«ما » مبهمة مفسرة بقوله : { من شيء } ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش «تروا » بالمثناة الفوقية ، على أنه خطاب لجميع الناس ، وقرأ الباقون بالتحتية بإرجاع الضمير إلى { الذين مكروا السيئات } ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب ( تتفيؤا ظلاله ) بالمثناة الفوقية . وقرأ الباقون بالتحتية ، واختارها أبو عبيد ، أي يميل من جانب إلى جانب ، ويكون أوّل النهار على حال ويتقلص ، ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى . قال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار ، فالتفيؤ لا يكون إلاّ بالعشيّ ، وما انصرف عنه الشمس والقمر ، والذي يكون بالغداة هو الظلّ . وقال ثعلب : أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظلّ . ومعنى { مِن شَيء } من شيء له ظلّ ، وهي الأجسام ، فهو عام أريد به الخاص . و{ ظلاله } جمع ظلّ ، وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة .

{ عَنِ اليمين والشمائل } أي : عن جهة أيمانها وشمائلها ، أي : عن جانبي كل واحد منها . قال الفراء : وحد اليمين ؛ لأنه أراد واحداً من ذوات الأظلال ، وجمع الشمائل ؛ لأنه أراد كلها ، لأن ما خلق الله لفظه مفرد ومعناه جمع . وقال الواحدي : وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازاً في اللفظ كقوله : { وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] ، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع . وقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع ، عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] ، و{ خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] ، وقيل : المراد باليمين : النقطة التي هي مشرق الشمس ، وأنها واحدة . والشمائل : عبارة عن الانحراف في فلك الإظلال بعد وقوعها على الأرض ، وهي كثيرة . وإنما عبر عن المشرق باليمين ؛ لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ، ومنه تظهر الحركة القوية . { سُجَّدًا لِلَّهِ } منتصب على الحال ، أي : حال كون الظلال سجداً لله . قال الزجاج : يعني : أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة ، وقال أيضاً : سجود الجسم : انقياده وما يرى من أثر الصنعة { وَهُمْ داخرون } في محل نصب على الحال ، أي : خاضعون صاغرون ، والدخور : الصغار والذلّ ، يقال : دخر الرجل ، فهو داخر ، وأدخره الله . قال الشاعر :

فلم يبق إلا داخر في مخيس *** ومتحجر في غير أرضك في حجر

ومخيس : اسم سجن كان بالعراق .

/خ50