المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

وقوله { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء } الآية ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «أو لم يروا » بالياء على لفظ الغائب ، وكذلك في العنكبوت{[7320]} ، فهي جارية على قوله : { أو يأخذهم } ، وقوله : { أو يأتيهم } وقوله : { لا يشعرون } ، ورجحها الطبري ، وقرأ حمزة والكسائي «أولم تروا » بالتاء في الموضعين ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن ، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما : أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أولم تروا ، والوجه الآخر أن يكون خطاباً عاماً لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفاً ، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق ، واختلف عنه في العنكبوت ، وقوله { من شيء } لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله { يتفيأ ظلاله } لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل ، والرؤية هنا هي رؤية القلب ، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين ، وقرأ أبو عمرو وحده «تتفيأ » بالتاء من فوق ، وهي قراءة عيسى ويعقوب ، وقرأ الجمهور «يتفيأ » ، قال أبو علي : إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان ، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال ، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها ، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام ، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس ، فيعم ، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب ، وكذلك قول حميد بن ثور :

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه . . . ولا الفيء من برد العشي تذوق{[7321]}

فهو على المهيع{[7322]} ، وكذلك قول علقمة بن عبدة : [ الطويل ]

تَتَبع أفياء الظلال عشية . . . على طرق كأنهن سيوف

وكذلك قول امرىء القيس :

يفيء عليها الظل{[7323]} . . . وأما النابغة الجعدي فقال : [ الخفيف ]

فسلام الإله يغدو عليهم . . . وفيء الفردوس ذات الظلال{[7324]}

فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع ، وقال رؤبة بن العجاج : يقال بعد الزوال فيء وظل ، ولا يقال قبله إلا ظل فقط ، ويقال فاء الظل أي رجع من النقصان إلى الزيادة ، ويعدى فاء بالهمزة كقوله تعالى : { ما أفاء الله }{[7325]} [ الحشر : 7 ] ويعدى بالتضعيف فيقال أفاءه الله وفياه الله وتفيأ مطاوع فيا ، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب ، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره ، فكأن الآية جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل ، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملاً على لفظ ما أو لفظ شيء ، وهو في المعنى لجمع ، وقرأ الثقفي «ظُلَلُه » بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء ، وقوله { عن اليمين والشمائل } أفرد اليمين وهو يراد به الجمع ، فكأنه للجنس ، والمراد عن الأيمان والشمائل ، كما قال الشاعر : [ جرير ]

الواردون ونِيمٌ في ذرى سبأ . . . قد عض أعناقهم جلد الجواميس{[7326]}

وكما قال الآخر :

ففي الشامتين الصخر إن كان هدني . . . رزية شبلي مخدر في الضراغم{[7327]}

والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك ، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط ، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر ، أي تقدره ذا يمين وشمال ، وتقدره يستقبل أي جهة شئت ، ثم تنظر فيه فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال ، وذلك في كل أقطار الدنيا ، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية ، وفيه تجوز واتساع ، ومن ذهب إلى أن { اليمين } من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال ، وهو قول قتادة وابن جريج ، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب ، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب ، وما قال بعض الناس من أن { اليمين } أول وقعة للظل بعد الزوال ، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال ، ولذلك جمع { الشمائل } ، وأفرد { اليمين } ، فتخليط من القول يبطل من جهات ، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً ، ثم بعث الله الشمس عليه دليلاً فقبض إليه الظل .

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة ، وظلال متقطعة ، فهي شمائل كثيرة ، وكأن الظل عن اليمين متصلاً واحداً عاماً لكل شيء ، وفي هذا القول تجوز في تفيأ ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبداً مندفعاً عن اليمين إلى الزوال ، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل ، وقالت فرقة «الظلال » هنا الأشخاص هي المراد أنفسها ، والعرب تعبر أحياناً عن الأشخاص بالظل ، ومنه قول عبدة بن الطيب : [ البسيط ]

إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية . . . وفار للقوم باللحم المراجيل{[7328]}

وإنما تنصب الأخبية ، ومنه قول الآخر : [ الطويل ]

تتبع أفياء الظلال عشية . . . {[7329]} أي أفياء الأشخاص .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله محتمل غير صريح ، وإن كان أبو علي قد قدره ، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة ، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر ، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت ، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة ، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود ، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها . . . كما سجدت نصرانة لم تحنف{[7330]}

والداخر المتصاغر المتواضع ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]

فلم يبق إلا داخر في مُخَيِّس . . . ومنجحر في غير أرضك في حجر{[7331]}


[7320]:في قوله تعالى في الآية (19): {أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير}.
[7321]:قال حميد هذا البيت يصف سرحة، وكنى بها عن امرأة، وقال في (اللسان ـ فيأ): "وإنما سمي الظل فيئا لرجوعه من جانب إلى جانب"، ونقل عن ابن السكيت قوله: "الظل: ما نسخته الشمس، والفيء: ما نسخ الشمس"، وقد وضح الشاعر في هذا البيت أن الظل بالغداة، وهو ما لم تنله الشمس، وأن الفيء بالعشي، وهو ما انصرفت عنه الشمس. والسرحة: واحدة السرح، وهو شجر عظام طوال.
[7322]:المهيع من الطرق: البين، وجمعه مهايع. (المعجم الوسيط).
[7323]:هذا جزء من بيت، وهو بتمامه: تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طام وهو من قصيدة له يرد على سبيع بن عوف بن مالك الذي قال فيه أبياتا يذمه، وضارج: جبل معروف، والعين نبع عند ضارج، والعرمض: الطحلب الأخضر الذي يتغشى الماء كأنه نسج العنكبوت، و يسمى بالطحلب إذا كان في جوانب الماء، يقال: عرمض الماء عرمضة: علاه العرمض، وطام: مرتفع، يقول: إن ناقتي قصدت العين التي عند ضارج، وهي عين يفيء عليها الظل، ويرتفع فوقها الطحلب.
[7324]:الفردوس: البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين " مذكر ومؤنث"، أو الوادي الخصيب، أو المكان تكثر فيه الكروم، وكل ذلك جائز هنا، والشاهد في البيت أن النابغة الجعدي تجوز لأنه جعل الفيوء حيث لا رجوع، بخلاف المألوف المعروف في الأمثلة الأخرى.
[7325]:من الآية (7) من سورة (الحشر).
[7326]:البيت لجرير، و هو في هجاء عمر بن لجأ التيمي، والرواية في الديوان: "تدعوك ثيم وثيم"، ويريد بقوله: "عض أعناقهم جلد الجواميس" أنهم أسرى وفي أعناقهم أطواف من جلد الجواميس، وهو جلد غليظ متين، والشاهد أن الشاعر هنا أفرد فقال: "جلد الجواميس"، ولم يقل: "جلود الجواميس" في مقابلة قوله: "أعناقهم".
[7327]:البيت للفرزدق، وهو من قصيدة له يرثي انبين له. والشامتون: جمع شامت و هو الذي يفرح في بلية الإنسان، و هدني: أوهن ركني، والمخدر: الأسد، والضراغم: جمع ضرغام وهو الأسد أيضا، فهو يتجلد و يتحمل مصيبته في فقد ولديه حتى لا يشمت فيه الشامتون الحاقدون، والشاهد أنه أفرد اليمين وجمع الشمائل، لأن معنى الكلام في الآية الكريمة: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلال ما خلق من شيء عن يمينه ـ أي: ما خلق ـ وشمائله، فلفظ [ما] لفظ واحد و معناه معنى الجمع، فقال سبحانه: {عن اليمين} بمعنى: عن يمين ما خلق، ثم رجع إلى معنى [ما] في [الشمائل].
[7328]:عبدة بن الطبيب من بني عبشمس بن كعب، وهو شاعر مخضرم ، أدرك الإسلام وأسلم، وشهد مع المثنى قتال هرمز، وله في ذلك آثار مشهورة. والأخبية: جمع خباء، و هو البيت من الوبر أو الشعر أو الصوف يكون على عمودين أو ثلاثة ، و المراجيل: قدور من الطين أو النحاس يطبخ فيها، وقد وضح المؤلف الشاهد في البيت.
[7329]:هذا صدر بيت قاله علقمة الفحل، وقد سبق الاستشهاد به قبل ذلك بقليل (ص 431 هامش 2) من هذا الجزء، والبيت بتمامه: تتبع أفياء الظلال عشية على طرق كأنهن سيوب
[7330]:البيت لأبي الأخزر الحماني، وفيه يصف الشاعر ناقتين خرتا من الإعياء والتعب، أو نحرتا فطأطأتا رأسيهما، فشبه الشاعر سجودهما بسجود النصرانة، وقد سبق الاستشهاد به في هذا الجزء (ص 309، هامش 1) والشاهد هنا أنه عبر عن طأطأة الرأس بالسجود.
[7331]:البيت شاهد على أن معنى الداخر: الصاغر، وقد استشهد به أبو عبيدة في "مجاز القرآن"، وذكره صاحب اللسان في (خيس)، و نسبه إلى الفرزدق، قال في اللسان: "وكل سجن: مخيس ومخيس ـ بتشديد الياء مفتوحة و مكسورة، والمنجحر ـ بتقديم الجيم على الحاء ـ : الداخل في الجحر، يقال: أجحره: أدخله الجحر فدخله، والجحر: كل مكان تحتفره الهوام والحيوانات لأنفسها، والجمع: أحجار و جحرة، يقول: إن أعداء جميعا أذلاء صاغرون في السجون والأجحار. ورواية الديوان: و منحجر بتقديم الحاء على الجيم.