إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } استفهامٌ إنكاريّ ، وقرئ على صيغة الخِطاب والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألم ينظروا ولم يرَوا متوجهين { إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيء } أي من كل شيء { يَتَفَيَّأُ ظلاله } أي يرجِع شيئاً فشيئاً حسبما يقتضيه إرادةُ الخالق تعالى ، فإن التفيّؤَ مطاوِعُ الإفاءةِ ، وقرئ بتأنيث الفعل { عَنِ اليمين والشمائل } أي ألم يرَوا الأشياءَ التي لها ظلالٌ متفيِّئةٌ عن أيْمانها وشمائلِها أي عن جانبي كل واحد منها ، استُعير لهما ذلك من يمين الإنسانِ وشمالِه { سُجَّدًا لِلَّهِ } حالٌ من الظلال كقوله تعالى : { وظلالهم بالغدو والآصال } والمرادُ بسجودها تصرّفُها على مشيئة الله وتأتّيها لإرادته تعالى في الامتداد والتقلصِ وغيرِهما غيرَ ممتنعةٍ عليه فيما سخرها له ، وقوله تعالى : { وَهُمْ داخرون } أي صاغرون منقادون ، حال من الضمير في ظلاله والجمعُ باعتبار المعنى وإيرادُ الصيغةِ الخاصة بالعقلاء لما أن الدخورَ من خصائصهم ، والمعنى ترجِع الظلالُ من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارِها أو باختلاف مشارقِها ومغاربها فإنها كلَّ يوم من أيام السنة تتحرك على مدار معينٍ من المدارات اليومية بتقدير العزيزِ العليم ، منقادةٌ لما قُدّر لها من التفيّؤ أو واقعةٌ على الأرض ملتصقةٌ بها على هيئة الساجد ، والحالُ أن أصحابها من الأجرام داخرةٌ منقادةٌ لحكمه تعالى ، ووصفُها بالدخور مغنٍ عن وصف ظلالِها به ، وكلاهما حالٌ من الضمير المشار إليه ، والمعنى ترجع ظلالُ تلك الأجرامِ حالَ كونها منقادةً لله تعالى داخرةً ، فوصفُها بهما مغنٍ عن وصف ظلالِها بهما ، ولعل المرادَ بالموصول الجماداتُ من الجبال والأشجارِ والأحجارِ التي لا يظهر لظلالها أثرٌ سوى التفيّؤِ بما ذُكر من ارتفاع الشمسِ وانحدارِها أو اختلافِ مشارقها ومغاربها ، وأما الحيوانُ فظلُّه يتحرك بتحركه ، وقيل : المرادُ باليمين والشمائل يمينُ الفَلكِ وهو جانبُه الشرقيُّ لأن الكواكبَ منه تظهر آخذةً في الارتفاع والسطوعِ ، وشمالُه وهو جانبُه الغربيُّ المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعةً على الرُّبع الغربي من الأرض ، وعند الزوالِ تبتدئ من الغرب واقعةً على الربع الشرقي منها ،