فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤا ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ( 48 ) } .

ثم لما خوف سبحانه الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير العالم العلوي والسفلي ومكانهما مصدرا بالاستفهام الإنكاري فقال : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } بالتحتية بإرجاع الضمير إلى ماكري السيئات وقرئ بالفوقية على أنه خطاب لجميع الناس وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار والاعتبار لا يكون إلا بنفس الرؤية التي يكون معها النظر إلى الشيء ليتأمل أحواله ويتفكر فيه ويعتبر به .

{ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ } ما مبهمة مفسرة بقوله : { مِن شَيْءٍ } له ظل وهي الأجسام فهو عام أريد به الخاص وخرج به الملك والجن { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } أي تميل وتدور وتنتقل من جانب إلى جانب وتكون أول النهار على حال وتتقلص ثم تعود في آخر النهار على حالة أخرى قال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس والقمر ، والذي يكون بالغداة هو الظل وما لم تنله .

وقال ثعلب : أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل ، وفي السمين التفيؤ تفعل من فاء يفيء إذا رجع وفاء قاصر فإذا أريد تعديته عدى بالهمزة كقوله ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أو بالتضعيف نحو فيأ الله الظل فتفيأ وتفيأ مطاوع فيأ فهو لازم .

واختلف في الفيء فقيل هو مطلق الظل سواء كان قبل الزوال أو بعده وهو الموافق لمعنى الآية ههنا ، وقيل ما كان قبل الزوال فهو ظل فقط وما كان بعده فهو ظل وفيء فالظل أعم ، وقيل بل يختص الظل بما قبل الزوال والفيء بما بعده والظلال جمع ظل وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة .

{ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ } أي عن جهة أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها استعارة أو مجاز من إطلاق المقيد على المطلق ، قال أبو السعود : استعير لهما ذلك من يمين الإنسان وشماله ، وقيل المراد باليمين يمين الفلك وهو جهة المشرق لأن الكواكب منه تظهر آخذة في الارتفاع والسطوع ومن الشمائل شماله وهي جهات المغرب المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها . قال الفراء : وحد اليمين لأنه أراد واحدا من ذوات الإظلال وجمع الشمال لأنه أراد كلها لأن ما خلق الله لفظ مفرد ومعناه جمع .

وقال الواحدي : وحد اليمين والمراد به الجمع إيجازا في اللفظ كقوله ويولون الدبر ، وبه قال الزمخشري ودلت الشمائل على أن المراد بها الجمع ، وقيل إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله وجعل الظلمات والنور ، وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم .

وقيل المراد باليمين النقطة التي هي مشرق الشمس وأنها واحدة والشمائل عبارة عن الانحراف في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة ، قيل إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان ظلك عن يمينك فإذا استوت الشمس في وسط السماء كان ظلك في خلفك فإذا مالت إلى الغروب كان ظلك عن يسارك .

وقال قتادة والضحاك : أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار دائما وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ؛ ومنه تظهر الحركة القوية والشمائل جمع شمال على غير قياس والقياس أشمل كذراع وأذرع .

{ سُجَّدًا } جمع ساجد كشاهد وشهد وراكع وركع أي حال كون الظلال ساجدة { لِلّهِ } قال الزجاج يعني أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة وقال أيضا سجود الجسم انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة .

قال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله ، وقيل إن الظلال ملتصقة بالأرض كالساجد عليها فلما كانت يشبه شكلها شكل الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ { وَهُمْ } أي والحال أن الظلال { دَاخِرُونَ } أي خاضعون صاغرون والدخور الصغار والذي يقال دخر الرجل فهو داخر وادخره الله ولما وصفها بالطاعة والانقياد لأمره وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل .