دخر دخوراً تصاغر ، وفعل ما يؤمر شاء أو أبى .
فلم يبق إلا داخر في مجلس . . . ***ومنجحر في غير أرضك في جحر
{ أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيئوا ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون .
ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون .
يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } : لما ذكر تعالى قدرته على تعذيب الماكرين وإهلاكهم بأنواع من الأخذ ، ذكر تعالى طواعية ما خلق من غيرهم وخضوعه ضد حال الماكرين ، لينبههم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره .
وقرأ السلمي ، والأعرج ، والأخوان : أو لم تروا بتاء الخطاب إما على العموم للخلق استؤنف به الأخبار ، وإما على معنى : قل لهم إذا كان خطاباً خاصاً .
وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة .
واحتمل أيضاً أن يعود الضمير على الذين مكروا ، واحتمل أن يكون إخباراً عن المكلفين ، والأول أظهر لتقدم ذكرهم .
وقرأ أبو عمرو ، وعيسى ، ويعقوب : تتفيئوا بالتاء على لتأنيث ، وباقي السبعة بالياء .
وقرأ عيسى : ظلله جمع ظلة ، كحلة وحلل .
والرؤية هنا رؤية القلب التي يقع بها الاعتبار ، ولكنها بواسطة رؤية العين .
قيل : والاستفهام هنا معناه التوبيخ .
قيل : ويجوز أن يكون معناه التعجب والتقدير : تعجبوا من اتخاذهم مع الله شريكاً وقد رأوا هذه المصنوعات التي أظهرت عجائب قدرته وغرائب صنعه ، مع علمهم بأنّ آلهتهم التي اتخذوها شركاء لا يقدر على شيء البتة .
والجملة من قوله : تتفيئوا ، في موضع الصفة قاله الحوفي ، وهو ظاهر قول ابن عطية والزمخشري .
قال ابن عطية : من شيء لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله : تتفيؤ ظلاله ، لأنّ ذلك صفة لما عرض للعبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل .
وقال الزمخشري : وما موصولة بخلق الله وهو مبهم بيانه من شيء تتفيؤ ظلاله ، وقال غير هؤلاء : المعنى من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم ، وقوله : تتفيؤ ظلاله ، إخبار عن قوله من شيء وصف له ، وهذا الإخبار يدل على ذلك الوصف المحذوف الذي هو له ظل .
وتتفيؤ تتفعل من الفيء ، وهو الرجوع يقال : فاء الظل يفيء فيأرجع ، وعاد بعدما نسخه ضياء الشمس .
وفاء إذا عدي فبالهمزة كقوله : { ما أفاء الله على رسوله } أو بالتضعيف نحو : فيأ الله الظل فتفيأ ، وتفيأ من باب المطاوعة ، وهو لازم وقد استعمله أبو تمام متعدياً قال :
طلبت ربيع ربيعة الممهى لها . . . ***وتفيأت ظلالها ممدودا
ويحتاج ذلك إلى نقله من كلام العرب متعدياً .
قال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار ، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس ، والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله .
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه***ولا الفيء من برد العشيّ تذوق
تيممت العين التي عند ضارج***يفيء عليها الظل عرمضها طام
وعن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ما لم تكن عليه فهو ظل ، وذلك أنّ الشمس من طلوعها إلى وقت الزوال تنسخ الظل ، فإذا زالت رجع ، ولا يزال ينمو إلى أن تغيب .
والمشهور أنّ الفيء لا يكون إلا بعد الزوال ، والاعتبار في هذه الآية من أول النهار إلى آخره .
فمعنى تتفيؤ تتنقل وتميل ، وأضاف الظلال وهي جمع إلى ضمير مفرد ، لأنه ضمير ما ، وهو جمع من حيث المعنى لقوله : { لتستووا على ظهوره } وقال صاحب اللوامح : في قراءة عيسى ظلله ، وظله الغيم وهو جسم ، وبالكسر الفيء وهو عرض في العامة : فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى ، وأما في العامة فعلى الاستعارة انتهى .
قالوا في قوله : عن اليمين والشمائل ، بحثان .
والثاني : ما الحكمة في إفراد اليمين وجمع الشمائل ؟ أما الأول فقالوا : يمين الفلك وهو المشرق .
وخص هذان الاسمان بهذين الجانبين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ، ومنه تظهر الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب ، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله ، فعلى هذا تقول الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك يقع الظلال إلى الجانب الغربي ، فإن انحدرت من وسط الفلك عن الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي ، فهذا المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال .
وقيل : البلدة التي عرضها أقل من مقدار الميل تكون الشمس في الصيف عن يمين البلدة فتقع الظلال على يمينهم .
وقال الزمخشري : المعنى أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ضلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقيه ، استعارة من يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي : ترجع الظلال من جانب إلى جانب انتهى .
وقال ابن عطية : والمقصود العبرة في هذه الآية ، هو كل جرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك ، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط ، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على حسب الاستعارة لغير اللبس تقدره : ذا يمين وشمال ، وتقدره : بمستقبل أي جهة شئت ، ثم تنظر ظله فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال ، وذلك في كل أقطار الدنيا ، فهذا يعم ألفاظ الآية .
ومن ذهب إلى أنّ اليمين من غدوة الزوال ، ويكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال ، وهو قول قتادة وابن جريج ، فإنما يترتب فيما قدره مستقبل الجنوب انتهى .
وأما الثاني فقال الزمخشري : واليمين بمعنى الأيمان ، فجعله وهو مفرد بمعنى الجمع ، فطابق الشمائل من حيث المعنى كما قال : { ويولون الدبر } يريد الإدبار .
وقال الفراء : كأنه إذا وجد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال ، وإذا جمع ذهب إلى كلها لأنّ قوله ما خلق الله من شيء ، لفظه واحد ومعناه الجمع ، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد لقوله : { وجعل الظلمات والنور } وقوله : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } وقيل : إذا فسرنا اليمين بالمشرق ، كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها ، فكانت اليمين واحدة .
وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض ، وهي كثيرة ، فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع .
وقال الكرماني يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف ، لأنّ الظل يفيء من الجهات كلها فبدئ باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها ، أو تيمناً بذكرها ، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين اليمين والشمال من التضاد ، وتنزل القدام والخلف منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف .
وقيل : وحد اليمين وجمع الشمائل ، لأن الابتداء عن اليمين ، ثم ينقبض شيئاً فشيئاً حالاً بعد حال ، فهو بمعنى الجمع ، فصدق على كل حال لفظة الشمال ، فتعدد بتعدد الحالات .
وقال ابن عطية : وما قال بعض الناس من أن اليمين أول وقعة للظل بعد الزوال ، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمائل ، وأفرد اليمين فتخليط من القول ومبطل من جهات .
وقال ابن عباس : إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً ، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً فقبض إليه الظل ، فعلى هذا تأول دورة الشمس بالظل عن يمين مستقبل الجنوب ، ثم يبدأ الانحراف فهو من الشمائل ، لأنه حركات كثيرة وظلال منقطعة ، فهي شمائل كثيرة ، فكان الظل عن اليمين متصلاً واحداً عاماً لكل شيء انتهى .
وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكتامي المعروف بابن الصائغ : أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين ، لأنّ ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة ، وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات ، فلحظت الغايتان في الآية : هذا من جهة المعنى ، وفيه من جهة اللفظ المطابقة ، لأنّ سجداً جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به ، فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ، ولحظهما معاً وتلك الغاية في الإعجاز انتهى .
والظاهر حمل الظلال على حقيقتها ، وعلى ذلك وقع كلام أكثر المفسرين وقالوا : إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك ، فإذا ارتفعت كان على يمينك ، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا أرادت الغروب كان على يسارك .
وقالت فرقة : الظلال هنا الأشخاص وهي المرادة نفسها ، والعرب تخبر أحياناً عن الأشخاص بالظلال .
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية . . . ***وفار للقوم باللحم المراجيل
وإنما تنصب الأخبية ، ومنه قول الشاعر :
تتبع أفياء الظلال عيشة . . . ***أي : أفياء الأشخاص .
قال ابن عطية : وهذا كله محتمل غير صريح ، وإن كان أبو علي قرره انتهى .
والظاهر أن السجود هنا عبارة عن الانقياد ، وجريانها على ما أراد الله من ميلان تلك الظلال ودورانها كما يقال للمشير برأسه إلى الأرض على جهة الخضوع : ساجد .
قال الزمخشري : سجداً حال من الظلال ، وهم داخرون حال من الضمير في ظلاله ، لأنه في معنى الجمع ، وهو ما خلق الله من شيء له ظل .
وجمع بالواو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب ، والمعنى : أنّ الظلال منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها .
ذاخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع انتهى .
فغاير الزمخشري بين الحالين ، جعل سجداً حالاً من الظلال ، ووهم داخرون حالاً من الضمير في سجداً ، وأن يكون حالاً ثانية من الظلال كما تقول : جاء زيد راكباً وهو ضاحك ، فيجوز أن يكون وهو ضاحك حالاً من الضمير في راكباً ، ويجوز أن يكون حالاً من زيد ، وهذا الثاني عندي أظهر ، والعامل في الحالين هو تتفيؤ ، وعن متعلقة به ، وقاله الحوفي .
وقيل : في موضع الحال ، وقاله أبو البقاء .
وقيل : عن اسم أي : جانب اليمين ، فيكون إذ ذاك منصوباً على الظرف .
وأما ما أجازه الزمخشري من أن قوله : وهم داخرون ، حال من الضمير في ظلاله ، فعلى مذهب الجمهور لا يجوز ، وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة ، ومن ذهب إلى أنه إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزء جاز ، وقد يخبر هنا ويقول : الظلال وإن لم تكن جزءاً من الأجرام فهي كالجزء ، لأن وجودها ناشئ عن وجودها .
وذهبت فرقة إلى أن السجود هنا حقيقة .
قال الضحاك : إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت وشجر ، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت .
وقال مجاهد : إنما تسجد الظلال دون الأشخاص ، وعنه أيضاً إذا زالت الشمس سجد كل شيء .
وقال الحسن : أما ظلك فيسجد لله ، وأما أنت فلا تسجد له .
وقيل : لما كانت الظلال ملصقة بالأرض واقعة عليها على هيئة الساجد وصفت بالسجود ، وكون السجود يراد به الحقيقة وهو الوقوع على الأرض على سبيل العبادة وقصدها يبعد ، إذ يستدعي ذلك الحياة والعلم والقصد بالعبادة .
وخصّ الظل بالذكر لأنه سريع التغير ، والتغير يقتضي مغيراً غيره ومدبراً له ،