الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ} (48)

قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش " تروا " بالتاء ، على أن الخطاب لجميع الناس . الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات ، وهو الاختيار . " من شيء " يعني من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل ، قاله ابن عباس . وإن كانت الأشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى . " يتفيأ ظلاله " قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال . الباقون بالياء ، واختاره أبو عبيد . أي يميل من جانب إلى جانب ، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى ، فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها ، ومنه قيل للظل بالعشي : فيء ؛ لأنه فاء من المغرب إلى المشرق ، أي رجع . والفيء الرجوع ، ومنه " حتى تفيء إلى أمر الله " {[9880]} [ الحجرات : 9 ] . روي معنى هذا القول عن الضحاك وقتادة وغيرهما ، وقد مضى هذا المعنى في سورة " الرعد " {[9881]} . وقال الزجاج : يعني سجود الجسم ، وسجوده انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة ، وهذا عام في كل جسم . ومعنى " وهم داخرون " أي خاضعون صاغرون . والدخور : الصغار والذل . يقال : دخر الرجل - بالفتح - فهو داخر ، وأدخره الله . وقال ذو الرمة :

فلم يبق إلا داخرٌ في مُخَيِّسٍ *** ومُنْجَحِرٌ{[9882]} في غير أرضك في جُحْرِ

كذا نسبه الماوردي لذي الرمة ، ونسبه الجوهري للفرزدق وقال : المخيس اسم سجن كان بالعراق ، أي موضع التذلل ، وقال{[9883]} :

أما تراني كَيِّسًا مُكَيّسًا *** بَنَيْتُ بعدَ نافع مُخَيَّسًا

ووحد اليمين في قوله : " عن اليمين " وجمع الشمال ؛ لأن معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع . ولو قال{[9884]} : عن الأيمان والشمائل ، واليمين والشمائل ، أو اليمين والشمال ، أو الأيمان والشمال لجاز ؛ لأن المعنى للكثرة . وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الأخرى ، كقوله تعالى : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم{[9885]} " [ البقرة : 7 ] وكقوله : " ويخرجهم من الظلمات إلى النور{[9886]} " [ المائدة : 16 ] ولو قال على أسماعهم وإلى الأنوار لجاز . ويجوز أن يكون رد اليمين على لفظ " ما " والشمال على معناها . ومثل هذا في الكلام كثير . فال الشاعر :

الواردون وتيم في ذُرَا سبأ *** قد عض أعناقَهم جِلْدُ الجواميسِ{[9887]}

ولم يقل جلود . وقيل : وحد اليمين لأن الشمس إذا طلعت وأنت متَوجّه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات{[9888]} ، فسماها شمائل .


[9880]:راجع ج 16 ص 315.
[9881]:راجع ج 9 ص 302.
[9882]:كذا في كتب اللغة. يقال: انحجر الضب إذا دخل الجحر، والذي في الأصول وديوان ذي الرمة: "متحجر في غير أرضك في حجر" بتقديم الحاء على الجيم في الكلمتين، وكذا في ج.
[9883]:القائل هو سيدنا علي رضي الله عنه. ونافع: سجن بالكوفة كان غير مستوثق البناء وكان من قصب، وكان المحبوسون يهربون منه. وقيل: نقب وأفلت منه المحبسون، فهدمه علي رضي الله عنه وبنى المخيس لهم من مدر.
[9884]:أي قائل في غير القرآن.
[9885]:راجع ج 1 ص 189.
[9886]:راجع ج 6 ص 117.
[9887]:البيت لجرير. ورواية ديوانه: تدعوك تيم وتيم في قرى سبأ
[9888]:هكذا وردت هذه الجملة في الأصول. ولعل صوابها: لأن الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين في حال، ثم يميل إلى جهة الشمال في حالات، فسماها شمائل. والذي في البحر لأبي حيان: "وقيل: وحد اليمين وجمع الشمائل؛ لأن الابتداء عن اليمين، ثم ينقبض شيئا فشيئا حالا بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمال فتعدد بتعدد الحالات".