{ 18-19 } { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ }
أي : ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي { فَاتَّبِعْهَا } فإن في اتباعها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح ، { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } أي : الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه ، وهم كل من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين لا يعلمون .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتمسك بالدين الذي أوحاه إليه ، فقال : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فاتبعها } .
والشريعة في الاصل تطلق على المياه والأنهار التي يقصدها الناس للشرب منها ، والمراد بها هنا : الدين والملة ، لأن الناس يأخذون منها ما تحيا به أرواحهم ، كما يأخذون من المياه والأنهار ما تحيا به أدبانهم .
قال القرطبي : الشريعة في اللغة : المذهب والملة . ويقال لمشرعة الماء - وهي مورد الشاربة - شريعة . ومنه الشارع ؛ لأنه طريق إلى القصد . فالشريعة : ما شرع الله لعباده من الدين ، والجمع الشرائع والشرائع في الدين المذاهب التي شرعها الله - تعالى - لخلقه .
أي : ثم جعلناك - أيها الرسول الكريم - على شريعة ثابتة ، وسنة قويمة ، وطريقة حميدة ، من أمر الدين الدين الذي أوحيناه إليك ، { فاتبعها } اتباعا تاما لا انحراف عنه { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } من أهل الكفر والضلال والجهل .
وقد ذكروا أن كفار قريش قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ارجع إلى دين آبائك ، فإنهم كانوا أفضل منك ، فنزلت هذه الآية .
ثم كتب الله الخلافة في الأرض لرسالة جديدة ورسول جديد ، يرد إلى شريعة الله استقامتها ، وإلى قيادة السماء نصاعتها ؛ ويحكم شريعة الله لا أهواء البشر في هذه القيادة :
( ثم جعلناك على شريعة من الأمر ، فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) . .
وهكذا يتمحض الأمر . فإما شريعة الله . وإما أهواء الذين لا يعلمون . وليس هنالك من فرض ثالث ، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة ؛ وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون !
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا }أي : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو ، وأعرض عن المشركين ، وقال هاهنا : { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }
{ ثم } للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، ولولا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو . وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف { ثم } أهم من مضمون الجملة المعطوفِ عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجةِ على الدليل . وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءة والبّيناتِ من الأمر ، فنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وكتابُه وحُكمه وبَيناته أفضل وأهدى مما أوتيه بنو إسرائيل من مثل ذلك .
و { على } للاستعلاء المجازي ، أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربّهم } [ البقرة : 5 ] .
وتنوين { شريعة } للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي .
والشريعة : الدين والملة المتَّبعة ، مشتقة من الشرع وهو : جَعل طريق للسير ، وسمي النهج شَرعاً تسميةً بالمصدر . وسُميت شَريعة الماء الذي يرده الناس شريعةً لذلك ، قال الراغب : استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيهاً بشريعة الماء قلتُ : ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير .
و { الأمر } : الشأن ، وهو شأن الدين وهو شأن من شؤون الله تعالى ، قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] ، فتكون { مِن } تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفاً { وآتيناهم بينات من الأمر } [ الجاثية : 17 ] لأن إضافة { شريعة } إلى { الأمر } تمنع من ذلك .
وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغاً عظيماً إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى ، وأنها شريعة عظيمة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدَأب في بيانها والدعوة إليها . ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله : { فاتّبعها } أي دُم على اتباعها ، فالأمر لطلب الدوام مثل { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] .
وبين قوله : { فاتبعها } وقوله : { ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } محسِّن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر . و { الذين لا يعلمون } هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهاه هواه } [ الجاثية : 23 ] .
والأهواء : جمع هوى ، وهو المحبة والميل . والمعنى : أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه : إسماع المشركين لئلا يطمعوا بمصانعة الرسول صلى الله عليه وسلم إيَّاهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحِينَ يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] . وفيه أيضاً تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون . وعن ابن عباس « أنها نزلت لمّا دعته قريش إلى دين آبائه » قال البغوي : كانوا يقولون له : ارجع إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم جعلناك على شريعة من الأمر} يعني بينات من الأمر، وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى ملة أبيك عبد الله، وجدك عبد المطلب وسادة قومك، فأنزل الله: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر}، يعني بينة من الأمر يعني الإسلام.
{ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} توحيد الله، يعني كفار قريش، فيستزلونك عن أمر الله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم جعلناك يا محمد من بعد الذي آتينا بني إسرائيل، الذين وصفت لك صفتهم "عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ "يقول: على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا "فاتّبِعْها" يقول: فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك.
"وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَ الذِينَ لا يَعْلَمُونَ"، يقول: ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون بالله، الذين لا يعرفون الحقّ من الباطل، فتعمل به، فتهلك إن عملت به... قال ابن زيد في قوله: "ثُمّ جَعَلْناكَ على شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ" قال: الشريعة: الدين. وقرأ "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحا وَالّذِين أوْحَيْنا إلَيْكَ"، قال: فنوح أوّلهم وأنت آخرهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يكون هذا صلة قوله تعالى: {وآتيناهم بينات من الأمر} كأنه يقول: {وآتيناهم بينات من الأمر} وجعلنا ذلك شريعة لك، فاتّبعها أنت، ولو لم يتّبعوها هم.
والشريعة هي المِلّة والمذهب، وهي ما شرع فيه، ويذهب إليه. كذلك قاله القتبيّ، قال: شرع فلان في كذا إذا أخذ فيه، ومنه مشارع الماء وهي الفُرَض التي يشرع منها الناس، والواردة، وقال أبو عوسجة: الشريعة السُّنة، والله أعلم.
ثم أخبر أن الذي هم عليه إنما هو هوى النفس، فقال: عز وجل: {ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون} يحتمل قوله: {لا يعلمون} [وجهين:
أحدها: لما لم يتأمّلوا، ويتفكّروا ما لو تأمّلوا، وتفكروا فيه لعلموا؛ لأنه قد ذكر في أول الآية أنهم إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، أي جاءهم من دلائل العلم ما لو تأملوا، ونظروا فيها لعلِموا.
والثاني: نفى عنهم العلم لما لم ينتفعوا بما علموا وما جعل لهم من العلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الشريعة: العلامات المنصوبة من الأمر والنهي المؤدية إلى الجنة.
"فاتبعها" يعني اعمل بهذه الشريعة.
"ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون" الحق ولا يفصلون بينه وبين الباطل...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{من الأمر} يحتمل أن يكون مصدراً من أمر يأمر، أي على شريعة من الأوامر والنواهي، فسمى جميع ذلك أمراً.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّرِيقِ إلَى الْمَاءِ، ضُرِبَتْ مَثَلًا لِلطَّرِيقِ إلَى الْحَقِّ لِمَا فِيهَا من عُذُوبَةِ الْمَوْرِدِ، وَسَلَامَةِ الْمَصْدَرِ، وَحُسْنِهِ...
{ثم جعلناك على شريعة من الأمر} أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان معنى هذا أنه سبحانه وتعالى جعل بني إسرائيل على شريعة وهددهم على الخلاف فيها، فكان تهديدهم تهديداً لنا، قال مصرحاً بما اقتضاه سوق الكلام وغيره من تهديدنا منبهاً على علو شريعتنا: {ثم} أي بعد فترة من رسلهم ومجاوزة رتب كثيرة عالية على رتبة- شريعتهم {جعلناك} أي بعظمتنا {على شريعة} أي طريقة واسعة عظيمة ظاهرة مستقيمة سهلة موصلة إلى المقصود هي جديرة بأن يشرع الناس فيها ويخالطوها مبتدئة {من الأمر} الذي هو وحينا وهو حياة الأرواح كما أن الأرواح حياة الأشباح.
ولما بين بهذه العبارة بعض فضلها على ما كان قبلها، سبب عنه قوله موجهاً الخطاب إلى الإمام بما أراد به المأمومين ليكون أدعى إلى اجتهادهم، فإن أمرهم تكليف وأمر إمامهم تكوين: {فاتبعها} أي بغاية جهدك.
ولما كانت الشريعة العقل المحفوظ الذي أخبر الله أنه به يأخذ وبه يعطي، كان الإعراض عنها إلى غيرها إنما هو هوى.
ولما كان آحاد الأمة غير معصومين أشار إلى العفو عن هفواتهم بقوله تعالى: {ولا تتبع} أي تتعمدوا أن تتبعوا.
{أهواء الذين لا يعلمون} أي لا علم لهم أو لهم علم ولكنهم يعملون عمل من ليس لهم علم أصلاً من كفار العرب وغيرهم، فإن من تعمد اتباعهم فعلت بهم ما فعلت ببني إسرائيل حيث لعنتهم على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام بعد ما لعنتهم على لسان موسى عليه الصلاة والسلام.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي.
{فَاتَّبِعْهَا} فإن في اتباعها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح.
{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}: الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه، وهم كل من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين لا يعلمون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم كتب الله الخلافة في الأرض لرسالة جديدة ورسول جديد، يرد إلى شريعة الله استقامتها، وإلى قيادة السماء نصاعتها؛ ويحكم شريعة الله لا أهواء البشر في هذه القيادة: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر، فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).. وهكذا يتمحض الأمر. فإما شريعة الله. وإما أهواء الذين لا يعلمون. وليس هنالك من فرض ثالث، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة؛ وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثم} للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، ولولا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو. وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف {ثم} أهم من مضمون الجملة المعطوفِ عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجةِ على الدليل. وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءة والبّيناتِ من الأمر، فنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وكتابُه وحُكمه وبَيناته أفضل وأهدى مما أوتيه بنو إسرائيل من مثل ذلك.
{على} للاستعلاء المجازي، أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربّهم} [البقرة: 5].
وتنوين {شريعة} للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي.
والشريعة: الدين والملة المتَّبعة، مشتقة من الشرع وهو: جَعل طريق للسير، وسمي النهج شَرعاً تسميةً بالمصدر. وسُميت شَريعة الماء الذي يرده الناس شريعةً لذلك، قال الراغب: استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيهاً بشريعة الماء قلتُ: ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير.
و {الأمر}: الشأن، وهو شأن الدين وهو شأن من شؤون الله تعالى، قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52]، فتكون {مِن} تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفاً {وآتيناهم بينات من الأمر} [الجاثية: 17] لأن إضافة {شريعة} إلى {الأمر} تمنع من ذلك.
وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغاً عظيماً إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى، وأنها شريعة عظيمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدَأب في بيانها والدعوة إليها. ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله: {فاتّبعها} أي دُم على اتباعها فالأمر لطلب الدوام مثل {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136].
وبين قوله: {فاتبعها} وقوله: {ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} محسِّن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر. و {الذين لا يعلمون} هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهاه هواه} [الجاثية: 23].
والأهواء: جمع هوى، وهو المحبة والميل. والمعنى: أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه: إسماع المشركين لئلا يطمعوا بمصانعة الرسول صلى الله عليه وسلم إيَّاهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم، وحِينَ يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} [الجاثية: 14]. وفيه أيضاً تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون، وعن ابن عباس « أنها نزلت لمّا دعته قريش إلى دين آبائه» قال البغوي: كانوا يقولون له: ارجع إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك.
أي: جعلناك يا محمد على الطريق المستقيم، والشريعة هي الطريق الموصل إلى الماء الذي هو أصل الحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ..} [الأنبياء: 30] فسمَّى الدين شريعة.
فكما أن الماءَ حياةُ الأبدان، فالدين حياةُ الأرواح والقلوب، وهو الذي يمنحهم الحياة الأخرى الباقية، حيث لا يفوتهم النعيم ولا يفوتونه، وهذه هي الحياة الحقيقية التي قال الله عنها: {يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ..} [الأنفال: 24]...