قوله تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين }
اختلفوا في هذا الدخان : أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن كثير ، عن سفيان ، حدثنا منصور والأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : " بينما رجل يحدث في كندة ، فقال : يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام ، ففزعنا فأتيت ابن مسعود وكان متكئاً فغضب فجلس ، فقال : من علم فليقل ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : لا أعلم ، فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } ( ص-86 ) ، وإن قريشاً أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال :اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم ، فقرأ : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } إلى قوله : { إنكم عائدون } أفيكشف عنهم عذاب الآخرة إذا جاء ؟ ثم عادوا إلى كفرهم ، فذلك قوله : { يوم نبطش البطشة الكبرى } يعني يوم بدر و لزاماً يوم بدر ، { الم * غلبت الروم } إلى { سيغلبون } ( الروم 2-3 ) ، والروم قد مضى ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى عن وكيع عن الأعمش ، قال : قالوا : { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } فقيل له : إن كشفنا عنهم عادوا إلى كفرهم ، فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر ، فذلك قوله : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } إلى قوله : { إنا منتقمون } . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : " خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان . وقال قوم : هو دخان يجيء قبل قيام الساعة ولم يأت بعد ، فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين حتى يكون كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار " ، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عقيل بن محمد الجرجاني ، حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادي ، حدثنا محمد بن جرير الطبري ، حدثني عصام بن رواد بن الجراح ، حدثنا أبي ، أنبأنا أبو سفيان بن سعيد ، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول الآيات الدخان ، ونزول عيسى بن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن أبين ، تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا ، قال حذيفة : يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا هذه الآية : { يوم تأتي السماء بدخان مبين } يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام ، وأما الكافر فكمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره " .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ولتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالصبر حتى يحكم الله بينه وبينهم .
والارتقاب : الانتظار ، وأكثر ما يستعمل الارتقاب فى الأمر المكروه والمراد باليوم مطلق الوقت ، وهو مفعول به لارتقب .
قال الآلوسى ما ملخصه : " والمراد السماء جهة العلو ، وإسناد الإِتيان بذلك إليها من قبيل الإِسناد إلى السبب ، لأنه يحصل بعدم إمطارها . . " .
أى : فارتقب يوم تأتى السماء بجدب ومجاعة ، فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، وهى ظلمة تعرض للبصر لضعفه . . وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز ، من باب ذكر المسبب وإرادة السبب . . وبعض العرب يسمى الشر الغالب دخانا ، ووجه ذلك أن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه ، وأريد به هنا الجدب ، ومعناه الحقيقى معروف .
وللمفسرين فى معنى هذه الآية إتجاهات أولها : ما ورد فى الحديث الصحيح من " أن مشركى مكة ، لما أصروا على كفرهم على إعراضهم عن الحق ، دعا عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف . . " فأصابهم القحط والبلاء والجوع . .
وكنى عن ذلك بالدخان ، لأن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان ، فيقولون : كان بيننا أمر ارتفع له دخان . .
والسبب فيه أن الإِنسان إذا اشتد ضعفه ، أظلمت عيناه ، فيرى الدنيا كالمملوءة بالدخان .
روى البخارى وغيره عن ابن مسعود قال : " إن قريشا لما أبطأت عن الإِسلام ، واستعصت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسنى يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى اكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان . .
فقيل : يا رسول الله ، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله : { إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } " .
قال ابن كثير : " وهذا الحديث مخرج فى الصحيحين ، ورواه الإِمام أحمد فى مسنده ، وهو عند الترمذى والنسائى فى تفسيرهما ، وعن ابن جرير وابن أبى حاتم من طرق متعددة " .
وعلى هذا الرأى يكون الدخان قد وقع فعلا ، بمعنى أن المشركين قد أصابهم بلاء شديد فى عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - . ثم كشف الله عنهم ما كشف ببركة دعاء النبى - صلى الله عليه وسلم - .
أما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه ، أن المراد بالدخان ، ما يكون قبل يوم القيامة من دخان يسبق ذلك ، كعلامة من علامات البعث والنشور .
واستدل أصحاب هذا الاتجاه ، بأحاديث ذكرها المفسرون .
قال ابن كثير : " وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات الساعة ، كما تقدم من حديث حذيفة بن أسدي الغفارى . قال : أشرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غرفته ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجووج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال وثلاثة خسوف : خسوف بالمشرق وخسوب بالمغرب ، وخسوف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر الناس - تبينت معهم حيث باتوا ، وتقيل حيث قالوا .
ثم ساق ابن كثير بعد ذلك أحاديث أخرى ، وقال فى نهايتها : والظاهر أن ذلك يوم القيامة .
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى سياق الآيات التى ذكرها الله - تعالى - فى هذه السورة ، ولا يتعارض ذلك مع كون ظهور الدخان علامة من علامات قرب يوم القيامة ، كما جاء فى حديث حذيفة بن أسيد الغفارى ، الذى ذكره ابن كثير - رحمه - الله - وقال فى شأنه : تفرد بإخراجه مسلم فى صحيحه .
ومن المفسرين الذين رجحوا الاتجاه الأول الإِمام الطبرى ، فقد قال بعد أن ساق هذين القولين : وأولى القولين بالصواب فى ذلك قول ابن مسعود ، من أن الدخان الذى أمر الله - تعالى - نبيه ان يرتقبه ، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم .
وإنما قلت القول الذى قاله ابن مسعد - رضى الله عنه - هو أولى تأويل الآية ، لأن الله - تعالى - توعد بالدخان مشركى قريش . . ولأن الأخبار قد تظاهرة بأن ذلك كائن .
والمعنى : فانتظر يا محمد لمشركى قومك ، يوم تأتيهم السماء من البلاء الذى يحل بهم ، بمثل الدخان المبين .
ومنهم - أيضا - الإِمام الآلوسى ، فقد قال - رحمه الله - : هذا والأظهر حمل الدخان على ما روى عنا بن مسعود ، لأن أنسب بالسياق ، لما أنه فى كفار قريش ، وبيان سو حالهم .
( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس . هذا عذاب أليم ) . .
وقد اختلف السلف في تفسير آية الدخان . فقال بعضهم . إنه دخان يوم القيامة ، وإن التهديد بارتقابه كالتهديد المتكرر في القرآن . وإنه آت يترقبونه ويترقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : بل هو قد وقع فعلاً ، كما توعدهم به . ثم كشف عن المشركين بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فنذكر هنا ملخص القولين وأسانيدهما . ثم نعقب بما فتح الله به ، ونحسبه صواباً إن شاء الله .
قال سليمان بن مهران الأعمش ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن مسروق . قال : دخلنا المسجد - يعني مسجد الكوفة - عند أبواب كندة . فإذا رجل يقص على أصحابه : ( يوم تأتي السماء بدخان مبين ) . . تدرون ماذا الدخان ? ذلك دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام . قال : فأتينا ابن مسعود - رضي الله عنه - فذكرنا ذلك له ، وكان مضطجعاً ففزع فقعد ، وقال : إن الله عز وجل قال لنبيكم [ صلى الله عليه وسلم ] : ( قل : ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) . إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم . أحدثكم عن ذلك . إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام ، واستعصت على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] دعا عليهم بسنين كسني يوسف . فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ؛ وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان - وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد - قال الله تعالى : ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ) . . فأتي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقيل له : يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت . فاستسقى [ صلى الله عليه وسلم ] لهم فسقوا . فنزلت . ( إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون ) . . قال ابن مسعود رضي الله عنه : أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة ? . . فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله عز وجل : ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) . . قال : يعني يوم بدر . قال ابن مسعود - رضي الله عنه - فقد مضى خمسة : الدخان ، والروم والقمر ، والبطشة ، واللزام " . . [ وهذا الحديث مخرج في الصحيحين . ورواه الإمام أحمد في مسنده . وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما . وعند ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به ] . وقد وافق ابن مسعود - رضي الله عنه - على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى ، جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي . وهو اختيار ابن جرير .
وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات الساعة ، كما ورد في حديث أبي سريحة حذيفة ابن أسيد الغفاري - رضي الله عنه - قال : أشرف علينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من عرفة ونحن نتذاكر الساعة ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات " طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم والدجال وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر - الناس - تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا " . . [ تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه ] .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن ربكم أنذركم ثلاثاً الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه ، والثانية الدابة ، والثالثة الدجال " . [ ورواه الطبراني عن هاشم بن زيد ، عن محمد بن إسماعيل بن عياش بهذا النص ؛ وقال ابن كثير في التفسير : وهذا إسناد جيد ] .
وقال ابن جرير كذلك : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، عن عبدالله بن أبي مليكة . قال : غدوت على ابن عباس - رضي الله عنهما - ذات يوم ، فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت . قلت : لم ? قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت . . وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن سفيان ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن عبد الله ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما فذكره .
قال ابن كثير في التفسير : " وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - حبر الأمة وترجمان القرآن . وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين - مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها ، مما فيه مقتنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة ، مع أنه ظاهر القرآن . قال الله تبارك وتعالى : ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) . . أي بيّن واضح يراه كل أحد . وعلى ما فسر به ابن مسعود - رضي الله عنه - إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد .
ثم قال متوعدا لهم ومتهددًا : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } .
قال سليمان بن مِهْرَان الأعمش ، عن أبي الضُّحَى مسلم بن صُبَيْح{[26170]} ، عن مسروق قال : دخلنا المسجد - يعني مسجد الكوفة - عند أبواب كندة ، فإذا رجل يقص على أصحابه : { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام . قال : فأتينا ابن مسعود فذكرنا ذلك له ، وكان مضطجعًا ففزع فقعد ، وقال{[26171]} إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] ، إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : " الله أعلم " سأحدثكم عن ذلك ، إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت{[26172]} على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان - وفي رواية : فجعل الرجل ينظر إلى السماء ، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد - [ قال ] {[26173]} قال الله تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : يا رسول الله استسق الله لمضر ، فإنها قد هلكت . فاستسقى لهم فَسُقُوا فأنزل الله : { إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } قال : ابن مسعود : فيكشف العذاب عنهم يوم القيامة ، فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } ، قال : يعني يوم بدر .
قال ابن مسعود : فقد مضى خمسة : الدخان ، والروم ، والقمر ، والبطشة ، واللِّزام . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين . {[26174]} ورواه الإمام أحمد في مسنده ، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما {[26175]} ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة ، عن الأعمش ، به{[26176]} وقد وافق ابن مسعود على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى ، جماعة من السلف كمجاهد ، وأبي العالية ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك ، وعطية العوفي ، وهو اختيار ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا {[26177]} عبد الرحمن الأعرج في قوله : { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } قال : كان يوم فتح مكة .
وهذا القول غريب جدًا بل منكر .
وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات{[26178]} الساعة ، كما تقدم من حديث أبي سَرِيحة{[26179]} حذيفة بن أسيد الغفاري ، رضي الله عنه ، قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس- أو : تحشر الناس - : تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا " تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه{[26180]} .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن الصياد : " إني خبأت لك خَبْأ " قال : هو الدُّخ . فقال له : " اخسأ فلن تعدو قدرك " قال : وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } {[26181]} .
وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب ، وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان ، وهم يُقَرطمون العبارة ؛ ولهذا قال : " هو الدُّخ " يعني : الدخان . فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية ، فقال له : " اخسأ فلن تعدو قدرك " .
ثم قال ابن جرير : وحدثني عصام بن رَوَّاد بن الجراح ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن سعيد الثوري ، حدثنا منصور بن المعتمر ، عن رِبْعِي بن حِرَاش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول{[26182]} : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول الآيات الدجال ، ونزول عيسى ابن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن أبين ، تسوق الناس إلى المحشر ، تقيل معهم إذا قالوا ، والدخان - قال حذيفة : يا رسول الله ، وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } - يملأ ما بين المشرق والمغرب ، يمكث أربعين يومًا وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة{[26183]} ، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران ، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره " {[26184]} .
قال ابن جرير : لو صح هذا الحديث لكان فاصلا وإنما لم أشهد له بالصحة ؛ لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل روادا عن هذا الحديث : هل سمعه من سفيان ؟ فقال له : لا قال : فقلت : أقرأته عليه ؟ قال : لا قال : فقلت له : فقرئ عليه وأنت حاضر فأقر به ؟ فقال : لا فقلت له : فمن أين جئت به ؟ فقال : جاءني به قوم فعرضوه علي ، وقالوا لي : اسمعه منا . فقرءوه عليَّ ثم ذهبوا به ، فحدثوا به عني ، أو كما قال {[26185]} .
وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث هاهنا ، فإنه موضوع بهذا السند ، وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير ، وفيه منكرات كثيرة جدًا ، ولا سيما في أول سورة " بني إسرائيل " في ذكر المسجد الأقصى ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا خليل ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يهيج الدخان بالناس ، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة ، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه " .
ورواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري موقوفًا . ورواه عوف ، عن الحسن قوله .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني محمد بن عوف ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم بن زُرعَة ، عن شُريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ربكم أنذركم ثلاثا : الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه والثانية الدابة والثالثة الدجال " .
ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد ، عن محمد بن إسماعيل بن عياش ، به{[26186]} وهذا
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : لم تمض آية الدخان بعد ، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام ، وتنفخ الكافر حتى ينفذ .
وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع ، عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن ابن عمر قال : يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام ، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ ، أي : المشوي على الرَّضف .
ثم قال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة عن ابن جريج{[26187]} ، عن عبد الله بن أبي مليكة قال : غدوت على ابن عباس ، رضي الله عنهما ، ذات يوم فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت . قلت : لم ؟ قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت {[26188]} وهكذا رواه ابن أبي حاتم{[26189]} ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن سفيان ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن ابن عباس فذكره . وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن . وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين أجمعين ، مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما ، التي أوردناها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة ، مع أنه ظاهر القرآن .
قال الله تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } أي : بين واضح يراه كل أحد . وعلى ما فسر به ابن مسعود ، رضي الله عنه : إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد . وهكذا قوله : { يَغْشَى النَّاسَ }
{ فارتقب } فانتظر لهم . { يوم تأتي السماء بدخان مبين } يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره ، أو لأن الهواء يظلم عام القحط لقلة الأمطار وكثرة الغبار ، أو لأن العرب تسمي الشر الغالب دخانا وقد قحطوا حتى أكلوا جيف الكلاب وعظامها ، وإسناد الإتيان إلى السماء لأن ذلك يكفه عن الأمطار ، أو يوم ظهور الدخان المعدود في أشراط الساعة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال : أول الآيات الدخان ونزول عيسى عليه السلام ، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر . قيل وما الدخان فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وقال : " يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره " أو يوم القيامة والدخان يحتمل المعنيين .
تفريع على جملة { بل هم في شك يلعبون } [ الدخان : 9 ] قُصد منه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بانتقام الله من مكذبيه ، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب ، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول ، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشةُ انتقام من أيمتهم تستأصلهم .
فالخطاب في { ارتقبْ } للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر مستعمل في التثبيت . والارتقاب : افتعال من رقَبَه ، إذا انتظره ، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر . وفعل ( ارتقب ) يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلاً في نزول هذه الآية ، ويقتضي كنايةً عن اقتراب وقوعه كما يُرتقب الجائي من مكان قريب .
و { يوم } اسم زمان منصوب على أنه مفعول به ل ( ارتقب ) وليس ظرفاً وذلك كقوله تعالى : { يخافون يوماً } [ النور : 37 ] ، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب { يومَ } نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة .
والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه . ولأن الجملة في قوة المصدر . والتقدير : فارتقب يوم إتيان السماء بدخان . وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أياممٍ وشهور كثيرة .
والدخان : ما يتصاعد عند إيقاد الحَطب ، وهو تشبيه بليغ ، أي بمثل دخان .
والمبين : البين الظاهر ، وهو اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بَان . والمعنى : أنه ظاهر لكل أحد لا يُشك في رؤيته . وقال أبو عبيدة وابن قتيبة : الدخان في الآية هو : الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف وأن الغبار يسمّيه العرب دُخَاناً وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف . وعن الأعرج : أنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة فقد حجبت الغبرة السماء ، وإسناد الإتيان به إلى السماء مجاز عقلي لأن السماء مكانه حين يتصاعد في جو السماء أو حين يلوح للأنظار منها . والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول ، فالظاهر أنه حَدث يكون في الحياة الدنيا ، وأنه عقاب للمشركين .