قوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } ، أي : يفتح قلبه وينوره حتى يقبل الإسلام ، ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر ، فقال : ( نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح ) ، قيل : فهل لذلك أمارة ؟ قال : نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت .
قوله تعالى : { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً } ، قرأ ابن كثير { ضيقا } ، بالتخفيف هاهنا وفي الفرقان ، والباقون بالتشديد ، وهما لغتان مثل : هين وهين ، ولين ولين .
قوله تعالى : { حرجا } ، قرأ أهل المدينة وأبو بكر بكسر الراء ، والباقون بفتحها ، وهما لغتان أيضا مثل : الدنف والدنف ، وقال سيبويه الحرج بالفتح : المصدركالطلب ، ومعناه ذا حرج ، وبالكسر الاسم ، وهو أشد الضيق ، يعني : يجعل قلبه ضيقاً حتى لا يدخله الإيمان . وقال الكلبي : ليس للخير فيه منفذ . قال ابن عباس : إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه ، وإذا ذكر شيئاً من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك . وقرأ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية ، فسأل أعرابياً من كنانة : ما الحرجة فيكم ؟ قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ، ولا وحشية ، ولا شيء ، فقال عمر رضي الله عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير . قوله تعالى : { كأنما يصعد في السماء } ، قرأ ابن كثير : { يصعد } ، بالتخفيف ، وسكون الصاد ، وقرأ أبو بكر عن عاصم يصاعد بالألف .
أي يتصاعد ، وقرأ الآخرون { يصعد } ، بتشديد الصاد والعين ، أي : يتصعد ، يعني يشق عليه الإيمان كما يشق عليه صعود السماء ، وأصل الصعود المشقة ، ومنه قوله تعالى : { سأرهقه صعوداً } أي : عقبة شاقة .
قوله تعالى : { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } ، قال ابن عباس : الرجس هوا لشيطان ، أي : يسلط عليه . وقال الكلبي : هو المأثم ، وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه . وقال عطاء : الرجس العذاب مثل الرجز . وقيل : هو النجس . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال : ( اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس ) . وقال الزجاج : الرجس اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة .
{ 125 } { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ }
يقول تعالى -مبينا لعباده علامة سعادة العبد وهدايته ، وعلامة شقاوته وضلاله- : إن من انشرح صدره للإسلام ، أي : اتسع وانفسح ، فاستنار بنور الإيمان ، وحيي بضوء اليقين ، فاطمأنت بذلك نفسه ، وأحب الخير ، وطوعت له نفسه فعله ، متلذذا به غير مستثقل ، فإن هذا علامة على أن الله قد هداه ، ومَنَّ عليه بالتوفيق ، وسلوك أقوم الطريق .
وأن علامة من يرد الله أن يضله ، أن يجعل صدره ضيقا حرجا . أي : في غاية الضيق عن الإيمان والعلم واليقين ، قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات ، فلا يصل إليه خير ، لا ينشرح قلبه لفعل الخير كأنه من ضيقه وشدته يكاد يصعد في السماء ، أي : كأنه يكلف الصعود إلى السماء ، الذي لا حيلة له فيه .
وهذا سببه ، عدم إيمانهم ، هو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم ، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان ، وهذا ميزان لا يعول ، وطريق لا يتغير ، فإن من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى ، يسره الله لليسرى ، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى ، فسييسره للعسرى .
ثم بين - سبحانه - حال المستعد لهداية الإسلام ، وحال المستعد للضلال فقال :
{ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } .
أى : فمن يرد الله أن يهديه للإسلام ، ويوفقه له ، يوسع صدره لقبوله ، ويسهله له بفضله وإحسانه .
وشرح الصدر : توسعته ، يقال : شرح الله صدره فانشرح ، أى : وسعه فاتسع ، وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها . مصفاة عما يمنعه وينافيه .
روى عبد الرازق أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية : كيف يشرح صدره ؟ فقال : " نور يقذف فينشرح له وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافة عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " .
وقوله : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره ، وإيثاره الضلالة على الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإسلام .
والحرج : مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج ، أى : ضاق ضيقا شديداً . وصف به الضيق للمبالغة ، كأنه نفس الضيق ، وأصل الحرج مجتمع الشىء ويقال : للحديقة الملتفة الأشجار التى يصعب دخولها حرجة .
وقرىء حرجا - بكسر الراء - صفة لقوله { ضَيِّقاً } .
روى أن جماعة من الصحابة قرأوا أمام عمر - رضى الله عنه - " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا " بكسر الراء فقال عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم ؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التى لا تصل إليها راعية ولا وحشية . فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شىء من الخير " .
وقوله { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } استئناف ، أو حال من ضمير الوصف ، أو وصف آخر لقلب الضال ، والمراد المبالغة فى ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة .
أى : كأنما إذا دعى إلى الإسلام قد كلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيعه بحال . ويصعد أى : يتصعد ، بمعنى يتكلف الصعود فلا يقدر عليه .
وفيه إشارة إلى أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود .
وقوله : { كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } أى : مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام ، يجعل الله الرجس . أى : العذاب ، أو الخذلان ، أو اللعنة فى الدنميا على الذين لا يؤمنون بالإسلام .
ثم تختم الجولة بتصوير حالة الهدى وحالة الايمان في داخل القلوب والنفوس :
( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) . .
من يقدر الله له الهداية - وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدى ويتجه إليه بالقدر المعطى له من الاختيار بقصد الابتلاء - ( يشرح صدره للإسلام ) ؛ فيتسع له ؛ ويستقبله في يسر ورغبة ، ويتفاعل معه ، ويطمئن إليه ؛ ويستروح به ويستريح له .
ومن يقدر له الضلال - وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدى ويغلق فطرته عنه ( يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ) . . فهو مغلق مطموس يجد العسر والمشقة في قبوله ، ( كأنما يصعد في السماء ) . . وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية ، من ضيق النفس ، وكربة الصدر ، والرهق المضني في التصعد إلى السماء ! وبناء اللفظ ذاته ( يصعد )- كما هو في قراءة حفص - فيه هذا العسر والقبض والجهد . وجرسه يخيل هذا كله ، فيتناسق المشهد الشاخص ، مع الحالة الواقعة ، مع التعبير اللفظي في إيقاع واحد .
وينتهي المشهد بهذا التعقيب المناسب :
( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) . .
. . كذلك . . بمثل هذا الذي يجري به قدر الله من شرح صدر الذي يريد الله به الهدى ، ومن العسر والجهد والمشقة لمن يريد به الضلال . . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون .
ومن معاني الرجس : العذاب . ومن معانيه كذلك : الارتكاس - وكلاهما يلون هذا العذاب بمشهد الذي يرتكس في العذاب ويعود إليه ولا يفارقه ! وهو الظل المقصود !
على أنه تبقى في النفس بقية من الحديث عن قوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) . .
إن تصور الحقيقة التي يقررها هذا النص وأمثاله في القرآن الكريم من النصوص التي تتعلق بالتعامل والارتباط بين مشيئة الله - سبحانه - واتجاهات البشر ؛ وما يصيبهم من الهدى والضلال ، وما ينالهم بعد ذلك من جزاء وثواب وعقاب . . إن هذا كله يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني ! وكل ما ثار من الجدل بشأن هذه القضية سواء في تاريخ الفكر الإسلامي ، وبخاصة بين المعتزلة وأهل السنة والمرجئة - أو في تاريخ اللاهوت والفلسفة - وكل القضايا والتعبيرات عنها ، موسومة بطابع المنطق الذهني .
إن تصور هذه الحقيقة يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني . وكذلك يقتضي التعامل مع " الواقع الفعلي " لا مع " القضايا الذهنية " . فالقرآن يصور الحقيقة الفعلية في الكينونة البشرية وفي الوجود الواقع ؛ وهذه الحقيقة يتراءى فيها التشابك بين مشيئة الله وقدره وبين إرادة الإنسان وعمله . في محيط لا يدركه المنطق الذهني كله .
فإذا قيل : إن إرادة الله تدفع الإنسان دفعا إلى الهدى أو الضلال . . لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية . وإذا قيل : إن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله . . لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية كذلك ! إن الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة - وغيبية كذلك - بين طلاقة المشيئة الإلهية وسلطانها الفاعل ، وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي . بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم . .
ولكن تصور الحقيقة " الفعلية " كما هي في واقعها هذا لا يمكن أن يتم في حدود المنطق الذهني . وفي شكل القضايا الذهنية والعبارة البشرية عنها . . إن نوع الحقيقة هو الذي يحدد منهج تناولها وأسلوب التعبير عنها . . وهذه الحقيقة لا يصلح لها منهج المنطق الذهني ولا القضايا الجدلية .
كذلك يحتاج تصور هذه الحقيقة كما هي في واقعها الفعلي إلى تذوق كامل في تجربة روحية وعقلية . . إن الذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحاً له . . هو من صنع الله قطعاً . . فالانشراح حدث لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه . والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقا وتقبضا وعسراً . . هو من صنع الله قطعا . . لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه ويجري به كذلك . . وكلاهما من إرادة الله بالعبد . . ولكنها ليست إرادة القهر . إنما هي الإرادة التي انشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلي هذا الخلق المسمى بالإنسان بهذا القدر من الإرادة . وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال .
وحين توضع قضية ذهنية في مواجهة قضية ذهنية . وحين يتم التعامل مع هذه القضايا ، بدون استصحاب الملامسة الباطنية للحقيقة ، والتجربة الواقعية في التعامل معها ، فإنه لا يمكن أبداً أن يتم تصور كامل وصحيح لهذه الحقيقة . . وهذا ما وقع في الجدل الإسلامي . . وفي غيره كذلك !
إنه لا بد من منهج آخر ومن تذوق مباشر للتعامل مع هذه الحقيقة الكبيرة . .
يقول تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } أي : ييسره له وينشطه ويسهله لذلك ، فهذه علامة على الخير ، كقوله تعالى : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ]{[11186]} } [ الزمر : 22 ] ، وقال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } [ الحجرات : 7 ] .
قال ابن عباس : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } يقول : يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وكذا قال أبو مالك ، وغير واحد . وهو ظاهر .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي جعفر قال : سُئل النبي صلى الله عليه وسلم : أيّ المؤمنين أكيس ؟ قال : " أكثرهم ذكرًا للموت ، وأكثرهم{[11187]} لما بعده استعدادًا " . قال :
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } وقالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال : " نور يُقْذَف فيه ، فينشرح له وينفسح " . قالوا : فهل لذلك من أمارة يُعرف بها ؟ قال : " الإنابة إلى دار الخُلُود ، والتَّجَافِي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " {[11188]} .
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا قَبِيصَة ، عن سفيان - يعني الثوري - عن عمرو بن مُرَّة ، عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن ، قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ] }{[11189]} فذكر نحو ما تقدم{[11190]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات القزاز ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح{[11191]} قالوا : يا رسول الله ، هل لذلك من أمارة ؟ قال : " نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت " .
وقد رواه ابن جرير عن سوار بن عبد الله العنبري ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة ، عن أبي جعفر فذكره{[11192]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قَيْس ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن المِسْوَر قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } قالوا : : يا رسول الله ، ما هذا الشرح ؟ قال : " نور يقذف به في القلب " . قالوا : يا رسول الله ، فهل لذلك من أمارة{[11193]} ؟ قال " نعم " قالوا : وما هي ؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت " {[11194]} .
وقال ابن جرير أيضا : حدثني هلال بن العلاء ، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد ، حدثنا محمد بن سَلمَة ، عن أبي عبد الرحيم{[11195]} عن زيد بن أبي أنَيْسة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ]{[11196]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح " . قالوا : فهل لذلك من علامة يعرف بها ؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتنحي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لُقي الموت " {[11197]} .
وقد رواه [ ابن جرير ]{[11198]} من وجه آخر ، عن ابن مسعود متصلا مرفوعًا فقال : حدثني بن سِنان القزاز ، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي ، عن يونس ، عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } قالوا : يا رسول الله ، وكيف يُشْرَح صدره ؟ قال : " يدخل الجنة فينفسح " . قالوا : وهل لذلك{[11199]} علامة يا رسول الله ؟ قال : " التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت " {[11200]} .
فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة ، يشد بعضها بعضا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ] }{[11201]} قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء ، والأكثرون : { ضَيِّقًا } بتشديد الياء وكسرها ، وهما لغتان : كَهَيْن وهَيّن . وقرأ بعضهم : { حَرَجًا } بفتح الحاء وكسر الراء ، قيل : بمعنى آثم . وقال{[11202]} السُّدِّي . وقيل : بمعنى القراءة الأخرى { حَرَجًا } بفتح الحاء والراء ، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى ، ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه .
وقد سأل عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، رجلا من الأعراب من أهل البادية من مُدْلج : ما الحرجة ؟ قال{[11203]} هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ، ولا وحشية ، ولا شيء . فقال عمر ، رضي الله عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل{[11204]} إليه{[11205]} شيء من الخير{[11206]} .
وقال العَوْفي عن ابن عباس : يجعل الله عليه الإسلام ضيقًا ، والإسلام واسع . وذلك حين يقول : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق .
وقال مجاهد والسُّدِّي : { ضَيِّقًا حَرَجًا } شاكا . وقال عطاء الخراساني : { ضَيِّقًا حَرَجًا } ليس للخير فيه منفذ . وقال ابن المبارك ، عن ابن جُرَيْج { ضَيِّقًا حَرَجًا } بلا إله إلا الله ، حتى لا تستطيع أن تدخله ، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه . وقال سعيد بن جُبَيْر : يجعل صدره { ضَيِّقًا حَرَجًا } قال : لا يجد فيه مسلكا إلا صُعدا .
وقال السُّدِّي : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } من ضيق صدره .
وقال عطاء الخراساني : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } يقول : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء . وقال الحكم بن أبان عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } يقول : فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء ، فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه ، حتى يدخله الله في قلبه .
وقال الأوزاعي : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا أن يكون مسلما .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة تضيقه إياه عن وصول الإيمان إليه . يقول : فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه ، مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه ؛ لأنه ليس في وسعه وطاقته .
وقال في قوله : { كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } يقول : كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا ، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله ، فيغويه ويصده عن سبيل الله{[11207]} .
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : الرجس : الشيطان . وقال مجاهد : الرجس : كل ما لا خير فيه . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرجس : العذاب .
{ فمن يرد الله أن يهديه } يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان . { يشرح صدره للإسلام فيتسع له وينفسح فيه مجاله ، وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه ، وإليه أشار إليه أفضل الصلاة والسلام حين سأل عنه فقال " نور يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح " فقالوا : هل لذلك من أمارة يعرف بها فقال : نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله " . { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإيمان . وقرأ ابن كثير { ضيقا } بالتخفيف ونافع وأبو بكر عن عاصم حرجا بالكسر أي شديد الضيق ، والباقون بالفتح وصفا بالمصدر . { كأنما يصعد في السماء } شبهة مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة ، ونبه به على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود . وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه ، وأصل يصعد يتصعد وقد قرئ به وقرأ ابن كثير { يصعد } وأبو بكر عن عاصم يصاعد بمعنى يتصاعد . { كذلك } أي كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الحق . { يجعل الله الرجس على الذين يؤمنون } يجعل العذاب أو الخذلان عليهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر للتعليل .
الفاء مُرتِّبة الجملةَ الّتي بعدها على مضمون ما قبلها من قوله : { أو من كان ميّتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] وما ترتَّب عليه من التّفاريع والاعتراض . وهذا التّفريع إبطال لتعلّلاتهم بعلّة { حتى نوتى مثل ما أوتي رسل الله } [ الأنعام : 124 ] ، وأنّ الله منعهم ما علّقوا إيمانَهم على حصوله ، فتفرّع على ذلك بيان السّبب المؤثّر بالحقيقة إيمانَ المؤمن وكُفْرَ الكافر ، وهو : هداية الله المؤمنَ ، وإضلالُه الكافرَ ، فذلك حقيقة التّأثير ، دون الأسباب الظّاهرة ، فيعرف من ذلك أنّ أكابر المجرمين لو أوتوا ما سألوا لما آمنوا ، حتّى يريد الله هدايتهم إلى الإسلام ، كما قال تعالى : { إنّ الذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية حتّى يَروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ، 97 ] وكما قال : { ولو أنَّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشَرْنا عليهم كلّ شيء قِبَلاً ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله } [ الأنعام : 111 ] .
والهدى إنَّما يتعلّق بالأمور النّافعة : لأنّ حقيقته إصابة الطريق الموصّل للمكان المقصود ، ومجازَه رشاد العقل ، فلذلك لم يحتج إلى ذكر متعلِّقه هنا لظهور أنَّه الهدى للإسلام ، مع قرينة قوله : { يشرح صدره للإسلام } ، وأمّا قوله : { فاهْدُوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23 ] فهو تهكّم . والضّلال إنَّما يكون في أحوال مضرّة لأنّ حقيقته خطأ الطّريق المطلوب ، فلذلك كان مُشعراً بالضرّ وإن لم يذكر متعلّقه ، فهو هنا الاتّصاف بالكفر لأنّ فيه إضاعة خير الإسلام ، فهو كالضّلال عن المطلوب ، وإن كان الضّالّ غير طالب للإسلام ، لكنّه بحيث لو استقبَلَ من أمره ما استدبَر لطلبه .
والشّرْح حقيقته شقّ اللّحم ، والشّريحة القطعة من اللّحم تشقّ حتّى ترقّق ليقع شَيُّها . واستعمل الشّرح في كلامهم مجازاً في البيان والكشف ، واستعمل أيضاً مجازاً في انجلاء الأمر ، ويقين النّفس به ، وسكون البال للأمر ، بحيث لا يتردّد فيه ولا يغتمّ منه ، وهو أظهر التّفسيرين في قوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] .
والصّدر مراد به الباطن ، مجازاً في الفهم والعقل بعلاقة الحلول ، فمعنى { يشرح صدره } يجعل لنفسه وعقله استعداداً وقبولاً لتحصيل الإسلام ، ويُوطّنه لذلك حتّى يسكن إليه ويرضى به ، فلذلك يشبَّه بالشّرح ، والحاصل للنّفس يسمّى انشراحاً ، يقال : لم تنشرح نفسي لكذا ، وانشرحتْ لكذا . وإذا حلّ نور التّوفيق في القلب كان القلب كالمتّسع ، لأنّ الأنوار توسّع مناظر الأشياء . روى الطّبري وغيره ، عن ابن مسعود : « أنّ ناساً قالوا : يا رسول الله كيف يشرحُ الله صدره للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل فيه النّور فينفسح قالوا وهل لذلك من علامة يعرف بها قال الإنابة إلى دار الخلود ، والتنحّي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الفوت » .
ومعنى : { ومن يرد أن يضله } من يُرد دوام ضَلاله بالكفر ، أو من يُرد أن يضلّه عن الاهتداء إلى الإسلام ، فالمراد ضلال مستقبل ، إمَّا بمعنى دَوام الضلال الماضي ، وإمَّا بمعنى ضلال عن قبول الإسلام ، وليس المراد أن يضلّه بكفره القديم ، لأنّ ذلك قد مضى وتقرّر .
والضيِّقُ بتشديد الياء بوزن فَيْعِل مبالغة في وصف الشّيء بالضيّق ، يقال ضاق ضِيقاً بكسر الضاد وضَيقاً بفتحها والأشهر كسر الضاد في المصدر والأقيس الفتح ؛ ويقال بتخفيف الياء بوزن فَعْل ، وذلك مثل مَيِّت ومَيْت ، وهما وإن اختلفت زنتهما ، وكانت زنة فَيْعِل في الأصل تفيد من المبالغة في حصول الفعل ما لا تفيده زنة فَعْل ، فإنّ الاستعمال سوّى بينهما على الأصحّ . والأظهر أنّ أصل ضيِّق : بالتخفيف وصف بالمصدر ، فلذلك استويا في إفادة المبالغة بالوصف . وقرىء بهما في هذه الآية ، فقرأها الجمهور : بتشديد الياء ، وابن كثير : بتخفيفها . وقد استعير الضيِّق لضدّ ما استعير له الشّرح فأريد به الّذي لا يستعدّ لقبول الإيمان ولا تسكن نفسه إليه ، بحيث يكون مضطرب البال إذا عُرض عليه الإسلام ، وهذا كقوله تعالى : { حصرت صدورهم } وتقدّم في سورة النّساء ( 90 ) .
والحَرِج بكسر الراء صفة مشبّهة من قولهم : حَرِج الشّيء حرَجاً ، من باب فرح ، بمعنى ضاق ضيقاً شديداً ، فهو كقولهم : دَنِف ، وقَمِن ، وفَرِق ، وحَذِر ، وكذلك قرأه نافع ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر ، وأمّا الباقون فقرأوه بفتح الراء على صيغة المصدر ، فهو من الوصف بالمصدر للمبالغة ، فهو كقولهم : رجل دَنَف بفتح النّون وفَرَد بفتح الراء .
وإتْباع الضيِّق بالحرج : لتأكيد معنى الضيق ، لأنّ في الحرج من معنى شدّة الضّيق ما ليس في ضيق . والمعنى يجعل صدره غير متّسع لقبول الإسلام ، بقرينة مقابلته بقوله : { يشرح صدره للإسلام } . وزاد حالة المضلَّل عن الإسلام تبيينا بالتّمثيل ، فقال : { كأنما يصعد في السماء } .
قرأه الجمهور : { يصّعَّد } بتشديد الصاد وتشديد العين على أنَّه يَتفعَّل من الصعود ، أي بتكلّف الصعود ، فقلبت تاء التفعّل صاداً لأنّ التاء شبيهة بحروف الإطباق ، فلذلك تقلب طاء بعد حروف الإطباق في الافتعال قلباً مطّرداً ثمّ تدغم تارة في مماثلها أو مقاربها ، وقد تقلب فيما يشابه الافتعال إذا أريد التّخفيف بالإدغام ، فتدغم في أحد أحرف الإطباق ، كما هنا ، فإنَّه أريد تخفيف أحد الحروف الثّلاثة المتحرّكة المتوالية من ( يَتصعّد ) ، فسُكنت التاء ثمّ أدغمت في الصّاد إدغام المقارب للتخفيف . وقرأه ابن كثير : { يَصْعَد } بسكون الصّاد وفتح العين ، مخفّفاً . وقرأه أبو بكر ، عن عاصم : { يصّاعد } بتشديد الصّاد بعدها ألف وأصله يتصاعد .
وجملة { كأنما يصعد } في موضع الحال من ضمير : { صدْرَه } أو من صَدره ، مُثِّل حال المشرك حين يدعى إلى الإسلام أو حين يخلو بنفسه ، فيتأمل في دعوة الإسلام ، بحال الصّاعد ، فإنّ الصّاعد يضيق تنفّسه في الصّعود ، وهذا تمثيل هيئة معقولة بهيئة متخيَّلة ، لأنّ الصّعود في السّماء غير واقع .
والسّماء يجوز أن يكون بمعناه المتعارف ، ويجوز أن يكون السّماء أطلق على الجوّ الّذي يعلو الأرض . قال أبو عليّ الفارسي : « لا يكون السّماء المُظلةَ للأرض ، ولكن كما قال سيبويه{[232]} القيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع صعداً » أراد أبو عليّ الاستظهار بكلام سيبويه على أنّ اسم السّماء يقال للفضاء الذّاهب في ارتفاع ( وليست عبارة سيبويه تفسيراً للآية ) .
وحرف { في } يجوز أن يكون بمعنى ( إلى ) ، ويجوز أن يكون بمعنى الظرفية : إمَّا بمعنى كأنّه بلغ السّماء وأخذ يصعد في منازلها ، فتكون هيئة تخييلية ، وإمّا على تأويل السّماء بمعنى الجوّ .
وجملة : { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } تذييل للتي قبلها ، فلذلك فصلت .
والرجس : الخبث والفساد ، ويطلق على الخبث المعنوي والنّفسي . والمراد هنا خبث النّفس وهو رجس الشّرك ، كما قال تعالى : { وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] أي مرضاً في قلوبهم زائداً على مرض قلوبهم السّابق ، أي أرسخت المرض في قلوبهم ، وتقدّم في سورة المائدة ( 90 ) { إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان } فالرجس يعمّ سائر الخباثات النّفسيّة ، الشّاملة لضيق الصّدر وحرجه ، وبهذا العموم كان تذييلاً ، فليس خاصّا بضيق الصدر حتّى يكون من وضع المظهر موضع المضمر .
وقوله : { كذلك } نائب عن المفعول المطلق المراد به التّشبيه والمعنى : يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون جَعْلا كهذا الضيق والحرج الشّديد الّذي جعله في صدور الّذين لا يؤمنون .
و { على } في قوله : { على الذين لا يؤمنون } تفيد تمكّن الرجس من الكافرين ، فالعُلاوة مجاز في التمكّن ، مثل : { أولئك على هدى من ربّهم } [ البقرة : 5 ] والمراد تمكّنه من قلوبهم وظهور آثاره عليهم . وجيء بالمضارع في { يَجعل } لإفادة التّجدّد في المستقبل ، أي هذه سنّة الله في كلّ من ينصرف عن الإيمان ، ويُعرض عنه .
و { الّذين لا يؤمنون } مَوصول يومىء إلى علّة الخبر ، أي يجعل الله الرجس متمكّناً منهم لأنَّهم يعرضون عن تلقّيه بإنصاف ، فيجعل الله قلوبهم متزائدة بالقساوة . والموصول يعمّ كلّ من يُعرض عن الإيمان ، فيشمل المشركين المخبر عنهم ، ويشمل غيرهم من كلّ من يُدعى إلى الإسلام فيُعرض عنه ، مثل يهود المدينة والمنافقين وغيرهم . وبهذا العموم صارت الجملة تذييلاً ، وصار الإتيان بالموصول جارياً على مقتضى الظاهر ، وليس هو من الإظهار في مقام الإضمار .