الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ} (125)

قوله سبحانه : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام . . . } [ الأنعام :125 ] .

{ مَنْ } : شَرْطٌ ، و{ يَشْرَحْ } جوابُ الشرط .

والآيةُ نصٌّ في أن اللَّه تعالى يريدُ هدي المؤمن ، وضلالَ الكافر ، وهذا عند جميعِ أهْل السنَّة بالإرادةِ القديمةِ التي هي صفةُ ذاته تبارك وتعالى ، والهدى هنا : هو خَلْق الإيمان في القَلْبِ ، وشَرْحُ الصدرِ : هو تسهيلُ الإيمان ، وتحبيبُه ، وإعدادُ القَلْبِ لقبولِهِ وتحصيلِهِ ، والصَّدْر : عبارةٌ عن القلب ، وفي { يَشْرَحْ } ضمير يعود على اسم اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَعْضُدُهُ اللفظ والمعنى ، ولا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ ، والقولُ بأنه عائدٌ على «المَهْدِيِّ » قولٌ يتركَّب عليه مذهب القَدَريَّة في خَلْق الأعمال ، ويجبُ أن يُعتقد ضَعْفُهُ ، والحَذَرُ منه ، ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم " أنه لَمَّا نزلَتْ هذه الآية ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ يُشْرَحُ الصَّدْرُ ؟ قَالَ : ( إذَا نَزَلَ النُّورُ فِي القَلْبِ ، انشرح لَهُ الصَّدْرُ ، وانفسح ) ، قَالُوا : وَهَلْ لِذَلِكَ عَلاَمَةٌ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( نَعَمِ ، الإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ ، والاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ ، قَبْلَ المَوْتِ ) ، والقول في قوله : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } كالقول في قوله : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ } ، وقرأ حمزة وغيره : ( 'حَرَجاً ) بفتح الراء ، وروي أن عمر بن الخطاب ( رضي اللَّه عنه ) قرأها يوماً بفتح الراء ، فقرأها له بعضُ الصَّحابة بكَسْر الراء ، فقال : ابغوني رجُلاً من كِنَانَةَ ، وليكنْ رَاعياً ، وليكُنْ من بني مدلج ، فلما جاء ، قال له : يَا فتى ، مَا الحَرِجَةُ عنْدَكُمْ ؟ قال الشَّجَرَةُ تكُونُ بَيْن الأشجار لا تَصِلُ إليها راعيَةٌ ولا وَحْشِيَّة ، قال عمر : كذلِكَ قَلْبُ المنافق لا يَصِلُ إليه شَيْءٌ من الخير .

وقوله سبحانه : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء } ، أي : كأنَّ هذا الضَّيِّقَ الصَّدْرِ متى حاول الإيمان أو فكَّر فيه ، يجد صعوبته عليه ، والعياذُ باللَّه ، كصعوبةِ الصُّعود في السماء ، قاله ابن جُرَيْج وغيره ، و{ فِي السماء } ، يريد : مِنْ سفل إلى علوٍ ، وتحتمل الآية أنْ يكون التشبيهُ بالصاعدِ في عَقَبَةٍ كَئُود ، كأنه يَصْعَدُ بها في الهواء ، ويَصْعَدُ : معناه : يعلو ، ويَصَّعَّدُ : معناه : يتكلَّف من ذلك ما يشقُّ عليه .

وقوله : { كذلك يَجْعَلُ الله الرجس } ، أي : وكما كان الهدى كله من اللَّه ، والضلال بإرادته تعالى ومشيئته ، كذلك يجعل اللَّه الرجْسَ ، قال أهل اللغة : الرجْسُ يأتي بمعنى العَذَابِ ، ويأتي بمعنى النَّجَس .