غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ} (125)

122

ثم إن القوم لما تردوا عن طاعة محمد صلى الله عليه وآله طلباً للعز والكرامة فالله تعالى بيّن أنه يقابلهم بضد مقصودهم ، فأول ما يوصل إليهم الذل والهوان وبعده عذاب شديد جميع ذلك بسبب مكرهم ونكرهم { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } يقال : شرح فلان أمره ، إذا أظهره وأوضحه ومنه شرح المسأله إذا بينها . وقال الليث : شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول ذلك الأثر . ولا شك أن توسيع الصدر غير ممكن على سبيل الحقيقة ولكن هاهنا معنى وهو أنه إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إلي وقوي طلبه ورغبته في حصوله وظهر في القلب استعداد شديد لتحصيله فسميت هذه الحالة سعة الصدر ، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظن يكون ذلك العمل مشتملاً على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وحصل في النفس نبوّة عن قبوله فيقال لهذه الحال ضيق الصدر ، لأن المكان إذا كان ضيقاً لم يتمكن الداخل من الدخول فيه ، وإذا كان واسعاً قدر على الدخول فيه . وأكثر استعمال شرح الصدر في جانب الحق والإسلام وقد ورد في الكفر أيضاً قال تعالى : { ولكن من شرح بالكفر صدراً } [ النحل : 106 ] قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له : «كيف يشرح الله صدره ؟ فقال صلى الله عليه وآله : يقذف الله تعالى فيه نوراً حتى ينفسخ وينشرح ، فقيل له : وهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله » وهذا البيان مناسب لما ذكرنا فإن الإنابة إلى دار الخلود لا بد أن تترتب على اعتقاد أن عمل الآخرة زائد النفع والخير ، والتجافي عن دار الغرور إنما ينبعث عن اعتقاد كون عمل الدنيا زائد الضر والضير ، والاستعداد للموت قبل نزوله نتيجة مجموع الأمرين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة . أما قوله : { حرجاً } فمن قرأ بكسر الراء فعلى النعت ، ومن قرأ بالفتح فعلى الوصف بالمصدر للمبالغة . قال الزجاج : الحرج في اللغة أضيق الضيق . وقيل : الحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية . حكى الواحدي بإسناده عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال : هل هاهنا أحد من بني بكر ؟ قال رجل : نعم . قال : ما الحرجة فيكم ؟ قال : الوادي الكثير الأشجار المشتبك الذي لا طريق فيه . فقال : كذلك قلب الكافر . ومعنى : { يصعد في السماء } كأنما يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة فكأن الكافر في نفوره من الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يتكلف الصعود إلى السماء . وقيل : المراد أن قلبه يتباعد عن الإسلام وقبوله تباعد ما بين الأرض والسماء . { كذلك يجعل } أي كما جعل ضيق الصدر في قلوبهم كذلك يجعل الرجس عليهم . وقال الزجاج : أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس . عن ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم . وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه . وعن عطاء : الرجس هو العذاب . وقال الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أن الهداية والضلال من الله تعالى ؛ بيانه أن العبد قادر على الإيمان وعلى الكفر وقدرته بالنسبة إلى الأمرين سواء ولا يترجح إلا لداعية ، ولا معنى للداعية إلى علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملاً على مصلحة زائدة ، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل ، ولا بد أن تنتهي تلك الداعية إلى تخليق الله وتكوينه دفعاً للتسلسل فإذا خلق الله تعالى في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة - وهو المراد بشرح الصدر - مال القلب إليه ، وإذا خلق في قلبه اعتقاد أن الإيمان بمحمد سبب للمفسدة الدينية والدنيوية نبا طبعه عنه وبقي على الكفر . فحاصل الآية أن من أراد الله منه الإيمان قوى دواعيه إليه ، ومن أراد منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان . وقالت المعتزلة : إنه لا دلالة في الآية على قولكم لأنه ليس فيها أكثر من أنه إذا أراد أن يهدي إنساناً أو يضله فعل به كيت وكيت ، وليس فيها أنه أراد ذلك أو لم يرده نظيره قوله : { لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا } [ الأنبياء : 17 ] فبيّن أنه كيف يفعل اللهو لو أراده ، ثمّ إنه لم يرد ذلك بالاتفاق وأيضاً لم قلتم إنه أراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان بل المراد من يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه ، وتفسير الشرح هو أنه يفعل به ألطافاً تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه . ومن يرد أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج لا في كل الأوقات بل في بعضها كيلا يمكن دفعه وخصوصاً عند ظهور نصرة المؤمنين وبدوّ الذل والصغار في الكافرين . وأيضاً لم لا يجوز أن يقال : المعنى فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لما رأى من فوائد الإيمان ونتائجه من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فتزداد رغبته فيه ، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره للحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنّة والدخول في النار ؟ وقال في الكشاف : { فمن يرد الله أن يهديه } أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف { يشرح صدره } للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه { ومن يرد أن يضله } أي يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له { يجعل صدره ضيقاً حرجاً } يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان .

وأجيب عن قولهم «ليس في الآية أنه أراد ذلك أو لم يرده » بأن قوله في آخر الآية : { كذلك يجعل الله الرجس } تصريح بأنه فعل به ذلك الإضلال لأن الكاف للتشبيه والتقدير : كما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره كذلك يجعل . وفيه أيضاً دلالة على أن المراد من قوله : { ومن يرد أن يضله } هو أنه يضله عن الدين ، وتفسير الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر بعيد لأن أكثر من يعتريه الحزن في الدنيا هو المؤمن ولهذا قال صلى الله عليه وعلى آله : «خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل » ولو خص ذلك بالآخرة كان من إيضاح الواضحات . فمن المعلوم لكل أحد أن من يضله الله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت . والجواب على قول صاحب الكشاف مما مر من أن فعل الإيمان يتوقف على أن تحصل في القلب داعية جازمة إلى الإيمان ، وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذا القول في جانب الكفر ، فإن سمى الداعيتين أحد باللطف والخذلان فلا مشاحة في الأسامي . قال القاضي في تفسيره : روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : تذاكرنا أمر القدرية عند ابن عمر فقال : لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله ؟ فتقوم القدرية . قال : ولا يخفى أنهم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله قضاءً وقدراً وخلقاً لأنهم يقولون الذنب لله فأي ذنب لنا حتى تعاقبنا أنت الذي خلقته فينا وأردته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له ولا يسرت لنا غيره ، فهؤلاء لا بد أن يكونوا خصماء الله . أما الذين قالوا إن الله تعالى مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة ، فهؤلاء منقادون لله تعالى لا خصماؤه . هذا كلام القاضي وتعجب منه الأشاعرة فقالوا : كيف يكون خصم الله من يقول ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على ربه اعتراض ولا مناظرة وكل ما يصل منه إلى عباده حتى الملائكة والأنبياء فهو تفضل منه وإحسان ، لكن الخصم من يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولاً عن الربوبية وكنت من السفهاء وأن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات ، فإن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة سنين غير محصورة ، ثم إنه لو ترك لحظة واحدة قال العبد له إنك معزول عن الإلهية . يحكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله ، عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن أبا علي عقد مجلس التذكير وحضر عنده جم غفير ، فذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس مختفياً عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز : إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ ، قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد في غاية الزهد ، وآخر في غاية الفسق ، الثالث كان صبياً لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم . فقال الجبائي : أما الزاهد ففي درجات الجنة ، وأما الكافر ففي دركات النار ، وأما الصبي فما أهل السلامة . فقال : قولي له إن الصبي لو أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد فهل يمكن منه ؟ قال الجبائي : لا لأن الله تعالى يقول له إنما أخوك وصل إلى تلك الدرجات لأنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذلك . فقال أبو الحسن : قولي له لو أن الصبي يقول : يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل بلوغي ، ولو أبلغتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد ، فقال الجبائي : يقول الله تعالى له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار فراعيت مصلحتك . فقال لها أبو الحسن . قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار وقال : يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين ، لم راعيت حال الأخ الصغير وما راعيت حالي ومصلحتي ؟ قال الراوي : فانقطع الجبائي فنظر فرأى أبا الحسن فعلم أن المسألة منه لا من العجوز . ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار وأكثر مجيباً عن الجبائي قائلاً : نحن لا نرضى بهذا الجواب وإنما نقول : الجواب مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها ، وهي أنه هل يجب على الله تعالى أن يكلف العبد أم لا ؟ فقال البصريون : إنه غير واجب ولكنه تفضل وإحسان . وقال البغداديون : إنه واجب وعلى الأول لله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلاً على أحد بشيء أن أتفضل على غيره بمثله ، وعلى قول البغداديين فللَّه أن يقول : إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف في حقه لم يستلزم مفسدة الغير فلا جرم فعلته ، أما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك فكان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا ما فعلته وظهر الفرق . وأورد على القسم الأول أنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح منه عقلاً لأنه ليس فعلاً شاقاً عليه ولا ينقص بذلك شيء من ملكه ، والصبي محتاج إلى الإحسان إليه ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد كمن منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجواد لعامة الناس . فإن كان حكم العقل في التحسين والتقبيح مقبولاً فليكن هاهنا أيضاً مقبولاً وإلا فلا يقبل في شيء من الصور وتبطل كلية مذهبكم . وأورد على الشق الثاني أن قولنا : «تكليفه يتضمن مفسدة » ليس معناه أن ذات التكليف تتضمن المفسدة وإلا لم ينفك تكليف عن المفسدة وأنه باطل بالاتفاق ، فمعناه إذاً أنه تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنساناً آخر يختار من قبل نفسه فعلاً قبيحاً ، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تعالى تكليفه وجب أن يقبح تكليف كل من علم الله من حاله أنه يكفر وإلا لزم محض التحكم . هذا تمام مناظرة الفريقين ، ولعلك قد عرفت التحقيق هنا فيما سلف فتذكر .

/خ130