لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ} (125)

قوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } أي الإيمان . يقال : شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول الإيمان والخير فتوسع وذلك أن الإنسان إذا اعتقد في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر مال بطبعه إليه وقويت رغبته فيه فتسمى هذه الحالة سعة النفس وانشراح الصدر . وقيل الشرح الفتح والبين ويقال شرح فلان أمره إذا : أوضحه وأظهره . وشرح المسألة إذا كانت مشكلة فأوضحها وبينها فقد ثبت أن للشرح معنين :

أحدهما : الفتح ومنه يقال شرح الكافر بالكفر صدراً أي فتحه لقبوله ومنه قوله تعالى : { ولكن من شرح بالكفر صدراً } وقوله : { أفمن شرح الله صدره للإسلام } يعني فتحه ووسعه لقبوله .

والثاني : أن الشرح نور يقذفه الله في قلب العبد فيعرف بذلك النور الحق ، فيقبله وينشرح صدره له ومعنى الآية : { فمن يرد الله أن يهديه للإيمان بالله } وبرسوله وبما جاء به من عنده يوفقه له ويشرح صدره ، لقبوله ويهونه عليه ويسهله له بفضله وكرمه ولطفه به وإحسانه إليه فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه فيضيء به ويتسع له صدره ولما نزلت هذه الآية سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح » قيل فهل لذلك أمارة قال : «نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت » وأسنده الطبري عن ابن مسعود قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه هذه الآية : { فمن يريد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } قال «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح » قالوا فهل لذلك من آية يعرف بها ؟ قال : «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت » .

وقوله تعالى : { ومن يرد } أي الله { أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً } يعني يجعل صدره ضيقاً حتى لا يدخله الإيمان ، وقال الكلبي : ليس للخير فيه منفذ ، وقال ابن عباس : إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإذا سمع ذكر الأصنام ارتاح إلى ذلك . وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية وعنده أعرابي من كنانة فقال له : ما الحرجة فيكم ؟ قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء ، فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير . وأصل الحرج الضيق وهو مأخوذ من الحرجة وهي الأشجار الملتف بعضها على بعض حتى لا يصل إليه شيء . وقرأ ابن عباس هذه الآية فقال : هل هنا أحد من بني بكر ؟ قال رجل : نعم . قال : ما الحرجة فيكم ؟ قال : الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه ، فقال ابن عباس : كذلك قلب الكافر . قال أهل المعاني : لما كان القلب محلاً للعلوم والاعتقادات وصف الله تعالى قلب من يريد هدايته بالانشراح والانفساح ونوره فقبل ما أودعه من الإيمان بالله ورسوله ووصف قلب من يريد ضلالته بالضيق الذي هو خلاف الشرح والانفساح فدل ذلك على أن الله تعالى صير قلب الكافر بحيث لا يعي علماً ولا استدلالاً على توحيد الله تعالى والإيمان به وفي الآية دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة الله وإرادته حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر .

وقوله تعالى : { كأنما يصعد في السماء } يعني أن الكافر إذا دعي إلى الإسلام كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء ولا يقدر على ذلك ، وقيل : يجوز أن يكون المعنى كأن قلب الكافر يصعد إلى السماء نبواً عن الإسلام وتكبراً ، وقيل : ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد إلى الماء وليس يقدر على ذلك ، وقيل : هو من المشقة وصعوبة الأمر فيكون المعنى أن الكافر إذا دعي إلى الإسلام فإنه يتكلف مشقة وصعوبة في ذلك كمن يتكلف إلى السماء وليس يقدر على ذلك { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } الكاف في كذلك تفيد التشبيه وفيه وجهان :

الأول : معناه أن جعله الرجس عليهم كجعله صدورهم ضيقة حرجة والمعنى كما جعلنا صدورهم ضيقة حرجة كذلك يجعل الله الرجس عليهم .

والوجه الثاني : قال الزجاج : أي مثل ما قصصنا عليك كذلك يجعل الله الرجس . قال ابن عباس : الرجس الشيطان أي فيسلطه الله عليهم ، وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه . وفي رواية عن ابن عباس أن الرجس العذاب ، وقال الزجاج : الرجس في الدنيا اللعنة وفي الآخرة العذاب .