قوله تعالى : { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث ، { ويجعل من يشاء عقيماً } فلا يلد ولا يولد له . قيل : هذا في الأنبياء عليهم السلام { يهب لمن يشاء إناثاً } يعني : لوطاً لم يولد له ذكر ، إنما ولد له ابنتان ، { ويهب لمن يشاء الذكور } يعني : إبراهيم عليه السلام لم يولد له أنثى ، { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } يعني : يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ولد له بنون وبنات ، { ويجعل من يشاء عقيماً } يحيى وعيسى عليهما السلام لم يولد لهما ، وهذا على وجه التمثيل ، والآية عامة في حق كافة الناس . { إنه عليم قدير } .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالحديث عن مظاهر قدرته التى لا يعجزها شئ ، وعن نفاذ مشيئته وحكمته ، وعن فضله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث أوحى إليه بما أوحى ، من هدايات للناس . فقال - تعالى - : { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض . . . إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } .
وقوله - تعالى - { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ . . } بيان لكمال قدرته - سبحانه - ، ولنفاذ مشيئته . والملك - بضم الميم - الاستيلاء على الشئ والتمكن من التصرف فيه .
أى : لله - تعالى - وحده ملك جميع ما فى السماوات والأرض ، وليس لأحد معه شئ لا اشتراكا ولا استقلالا ، وهو - سبحانه - " يخلق ما يشاء " أن يخلقه ، من غير أن يكون لأحد وصاية عليه ، أو اختيار لشئ معين . .
ثم فصل - سبحانه - بعض مظاهر هذه القدرة التامة ، والإِرادة النافذة فقال : { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } فهذه الجملة الكريمة بدل مفصل من مجمل ، أو بدل بعض من كل . وأحوال الناس بالنسبة للذرية لا تخلو عن هذه الأقسام الأربعة فهو - سبحانه - إما أن يهب لمن يشاء من عباده إناثا لا ذكور معهن ، وإما أن يهب لهم ذكورا لا إناث معهن ،
وإما أن يهب لبعضهم الإِناث والذكور معا وهذا معنى قوله - تعالى - { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } إذ التزويج معناه الجمع بين البنين والبنات .
وإما أن يجعل بعضهم عقيما ، أى : لا ذرية له ، ذكرا كان أو أنثى . يقال رجل عقيم وامرأة عقيم ، إذا كانا لا ذرية لهما .
وهذه الأحوال الأربعة كلها مشاهدة فى حياة الناس ، فمنهم من معه الإِناث فقط ، ومنهم من معه الذكور فقط ومنهم من معه الذكور والإِناث ومنهم من ليس معه منهما شئ وهذا كله يدل على كمال قدرته - سبحانه - ، وعلى نفاذ إرادته وحكمته ، إذ أعطى من يشاء إعطاءه بفضله ، ومنع من يشاء منعه لحكمة يعلمها ، لاراد لقضائه ، ولا معقب لحكمه .
فالآية الكريمة مسوقة لبيان أن العطاء والمنع بيد الله - تعالى - وحده ، وأن أحوال البشر بالنسبة للذرية خاضعة لمشييئته وحده ، وهو - سبحانه - يقدرها وفق علمه وإرادته وحكمته ؛ ليس لأحد مدخل فى اختيار نوع معين من الذرية ، وليس عند أحد القدرة على إنجاب شئ منها ، إذا أراد الله منعه من ذلك .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : " فإن قلت : لم قدم الإِناث أولا على الذكور مع تقدمهم عليهن ، ثمرجع فقدمهم ؟ ولم عرف الذكور بعدما نكر الإِناث " .
قلت : قدم الإِناث لبيان أنه - سبحانه - يفعل ما يشاء ، لا ما يشاءه الإِنسان ، فكان ذكر الإِناث اللاتى من جملة ما لا يشاؤه الإِنسان أهم ، والأهم واجب التقديم . .
وأخر - سبحانه - الذكور ، فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيرهم ، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم ، لأن التعريف تنويه وتشهير ، فكأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم ، ثم أعطى بذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير ، وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ، ولكن لمقتض آخر ، فقال : { ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } .
وقوله - تعالى - { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } تذييل قصد به تأكيد قدرته وحكمته . أى : إنه - سبحانه - واسع العلم بأحوال عباده وبما يصلحهم ، قدير على كل شئ ، فهو يفعل ما يفعله عن قدرة واختيار ، لا مكره له ولا معقب لحكمه .
{ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا } أي : ويعطي من يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى ، أي : من هذا وهذا{[25972]} . قال البغوي : كمحمد ، عليه الصلاة والسلام { وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا } أي : لا يولد له . قال البغوي : كيحيى وعيسى ، عليهما السلام ، فجعل الناس أربعة أقسام ، منهم من يعطيه البنات ، ومنهم من يعطيه البنين ، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا ، ومنهم من يمنعه هذا وهذا ، فيجعله عقيما لا نسل له ولا يولد له ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ } أي : بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام ، { قَدِيرٌ } أي : على من يشاء ، من تفاوت الناس في ذلك .
وهذا المقام شبيه بقوله تعالى عن عيسى : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [ مريم : 21 ] أي : دلالة لهم على قدرته ، تعالى وتقدس ، حيث خلق الخلق على أربعة أقسام ، فآدم ، عليه السلام ، مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى ، وحواء عليها السلام ، [ مخلوقة ]{[25973]} من ذكر بلا أنثى ، وسائر الخلق سوى عيسى [ عليه السلام ] {[25974]} من ذكر وأنثى ، وعيسى ، عليه السلام ، من أنثى بلا ذكر فتمت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ؛ ولهذا قال : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } ، فهذا المقام في الآباء ، والمقام الأول في الأبناء ، وكل منهما أربعة أقسام ، فسبحان العليم القدير .
{ أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما } بدل من { يخلق } بدل البعض ، والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة فيهب لبعض إما صنفا واحدا من ذكر أو أنثى أو الصنفين جميعا ويعقم آخرين ، ولعل تقديم الإناث لأنها أكثر لتكثير النسل ، أو لأن مساق الآية للدلالة على أن الواقع ما يتعلق به مشيئة الله لا مشيئة الإنسان والإناث كذلك ، أو لأن الكلام في البلاء والعرب تعدهن بلاء ، أو لتطييب قلوب آبائهن أو للمحافظة على الفواصل ولذلك عرف الذكور ، أو لجبر التأخير وتغيير العاطف في الثلث لأنه قسيم المشترك بين القسمين ، ولم يحتج إليه الرابع لا فصاحة بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة . { إنه عليم قدير } فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار .
أو ينوعهم مرة يهب ذكراً ويهب أنثى ، وذلك معنى قوله تعالى : { أو يزوجهم } . وقال محمد بن الحنفية : يريد بقوله تعالى : { أو يزوجهم } التوأم ، أي يجعل في بطنٍ زوجاً من الذرية ذكراً وأنثى . والعقيم : الذي لا يولد له ، وهذا كله مدبر{[10171]} بالعلم والقدرة ، وهذه الآية تقضي بفساد وجود الخنثى المشكل . وبدئ في هذه الآية بذكر الإناث تأنيساً بهن وتشريفاً لهن ليتهمم بصونهن والإحسان إليهن ، وقال النبي عليه السلام : «من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له حجاباً من النار »{[10172]} . وقال واثلة بن الأسقع : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ، لأن الله تعالى بدأ بالإناث ، حكاه الثعلبي . وقال إسحاق بن بشر : نزلت هذه الآية في الأنبياء ثم عمت ، فلوط أبو البنات لم يولد له ذكر ، وإبراهيم ضده ، ومحمد عليه السلام ولد له الصنفان ، ويحيى بن زكرياء عقيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذكرانا وإناثا} يعني يولد له مرة بنين وبنات ذكورا وإناثا، فنجعلهم له.
{ويجعل من يشاء عقيما}، لا يولد له. {إنه عليم} بخلقه، {قدير} في أمر الولد والعقم وغيره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"أوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانا وَإناثا": يهب لهم إناثا وذكرانا، ويجعل من يشاء عقيما لا يُولدَ له.
"إنّهُ عَلِيم قَدِيرٌ": إن الله ذو علم بما يخلق، وقُدرة على خلق ما يشاء لا يعزب عنه علم شيء من خلقه، ولا يعجزه شيء أراد خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أو يزوّجُهم ذُكرانا وإناثا} التزويج هو الجمع بين الشكلين والمتماثلين في الحقيقة. وقد يسمّى التزويج بين المتضادّين مجازا، والله أعلم. فيكون معنى قوله: {أو يزوّجهم ذكرانا وإناثا} أي يقرن، ويجمع بين الإناث والذكور، فيهب له من النوعين جميعا حالة واحدة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فرغ من أقسام الموهوبين الثلاثة، عطف على الإنعام بالهبة سلب ذلك، فقال موضع أن يقال مثلاً: ولا يهب شيئاً من ذلك لمن يشاء: {ويجعل من يشاء عقيماً} أي لا يولد له كيحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام -كذا قالوه، والظاهر أنه لا يصح مثالاً فإنه لم يتزوج، قال ابن ميلق: وأصل العقيم اليبس المانع من قابلية التأثر لما من شأنه أن يؤثر، والداء العقام هو الذي لا يقبل البرء- انتهى. فهذا الذي ذكر أصرح في المراد لأجل ذكر العقم، وأدل على القدرة؛ لأنه شامل لمن له قوة الجماع والإنزال لئلا يظن أن عدم الولد لعدم تعاطي أسبابه، وذكروا في هذا القسم عيسى عليه الصلاة والسلام. ولا يصح لأنه ورد أنه يتزوج بعد نزوله ويولد له، وهذه القسمة الرباعية في الأصول كالقسمة الرباعية في الفروع، بعضهم لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه الصلاة والسلام، وبعضهم من ذكر فقط كحواء عليها السلام، وبعضهم من أنثى فقط كعيسى عليه السلام وبعضهم من ذكر وأنثى وهم أغلب الناس، فتمت الدلالة على أنه ما شاء كان ولا راد له وما لم يشأ لم يكن، ولا مكون له ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
ولما دل هذا الدليل الشهودي على ما بنيت الآية عليه من إثبات الملك له وحده مع ما زادت به من جنس السياق وعذوبة الألفاظ وإحكام الشك وإعجاز الترتيب والنظم، كانت النتيجة قطعاً مؤكدة لتضمن إشراكهم به الطعن في توحده بالملك مقدماً فيها الوصف الذي هو أعظم شروط الملك:
{إنه عليم} أي بالغ العلم بمصالح العباد وغيرها {قدير} شامل القدرة على تكوين ما يشاء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إِنَّهُ عَلِيمٌ قدير} جملة في موضع العلة للمبدل منه وهو {يخلق ما يشاء} فموقع (إنّ) هنا موقع فاء التفريع. والمعنى: أن خلقه ما يشاء ليس خلقاً مهملاً عرياً عن الحكمة لأنه واسع العلم لا يفوته شيء من المعلومات فخلقه الأشياء يجري على وفق علمه وحكمته. وهو {قدير} نافذ القدرة فإذا علم الحكمة في خلق شيء أراده، فجرى على قَدَره. ولمّا جمع بين وصفي العلم والقدرة تعين أن هنالك صفة مطوية وهي الإرادة لأنه إنما تتعلق قدرته بعد تعلق إرادته بالكائن.
وتفصيلُ المعنى: أنه عليم بالأسباب والقُوى والمؤثرات التي وضعها في العوالم، وبتوافق آثار بعضها وتخالف بعض، وكيف تتكون الكائنات على نحو ما قُدِّر لها من الأوضاع، وكيف تتظاهر فتأتي الآثار على نسق واحد، وتتمانع فينقص تأثير بعضها في آثاره بسبب ممانعة مؤثراتٍ أخرى وكل ذلك من مظاهر علمه تعالى في أصل التكوين العالمي ومظاهر قدرته في الجري على وفاق علمه.
ثم يُرقِّى الحق سبحانه عطاءه للعبد، فيقول {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً..} يعني: يزاوج بين النوعين، فيهب لك الذكور ويهب لك الإناث.
{وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} يعني: يحرم هذه الهبة لحكمة أرادها الله.
وحتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يتعالى أحد على أحد يُعلِّمنا ربنا عز وجل أن مسألة الإنجاب هذه أو عدم الإنجاب لا تؤثر على منازل العباد عند الله تعالى، فحين أهَب الذكور أو الإناث أو أزواج بينهما لا يعني هذا رضاي عن عبدي، وحين أحرمه لا يعني هذا سخطي على عبدي، إنما هي سنتي في خَلْقي أنْ أهبَ الذكور وأنْ أهبَ الإناث، وأنْ أجعل مَنْ أشاء عقيماً.
لذلك تجدون هذه السُّنة نافذة حتى في الرسل الذين هم أكرم الخَلْق على الله، فسيدنا لوط وسيدنا شعيب وهبهما اللهُ الإناثَ، وسيدنا إبراهيم وهبه الله الذكور، وسيدنا محمد وهبه الله الذكور والإناث، فكان له عبد الله والقاسم وإبراهيم وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة.
إذن: لكم في رسول الله أسْوة حسنة. والذين يستقبلون أقدار الله في هذه المسألة بالرضا، ويرتفع عندهم مقام الإيمان والتسليم، ويؤمنون أن هذه هبة من الله حتى العقم يعتبرونه هبة، هؤلاء يُعوِّضهم الله، فحين ترضى مثلاً بالبنات وتُربِّيهن أحسن تربية، وتُحسن إليهنَّ يجعل الله لك من أزواجهن مَنْ يُعوِّضك عن الولد، وربما كانوا أبرَّ بك من الأبناء بآبائهم.
وتختتم الآية بقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} والعليم يهب على قَدْر علمه بالأمور، وبما يصلح عبده وما لا يُصلحه، فهو وحده سبحانه الذي يعلم أن هذا يصلح هنا، وهذا يصلح هنا، ثم هو سبحانه {قَدِيرٌ} له القدرة المطلقة في مسألة الخَلْق، لا يعجزه شيء ولا تقيده الأسباب.